بدون مقدمات المجاملة، وبدون عبارات الثناء على الشهداء والجرحى الذين لا يحتاجون
إلى ثناء من أحد ولا مدح من أحد لأنهم بالفعل والممارسة قدّموا الدليل على أنهم
ثاروا على الطاغية الكافر الدجال استجابة لأمر الله في ضرورة محاربة الفراعنة
المستبدين، ومن أجل تخليص بلادهم وأهلهم من ظلم عائلة وزبانية وعصابة أهلكت الحرث
والنسل. ولذلك هبّوا من تلقاء أنفسهم لا يريدون تمييزا، ولا مغنما، ولا تشريفا
إلاّ شرف الجهاد ضد فرعون العصر في ملحمة تعد من ملاحم النضال الأسطوري بحيث
استحقت إعجاب العالم واحترامه. وهكذا نظر الليبيون إلى ثورتهم باعتبارها ثورة شعب
عاني كله ظلم الطاغية بنفس القسوة والشدّة. وأن هذا الشعب انطلق في تلقائية جهادية
لا تعطي أحدا فضلا على أحد في إشعال شرارتها، وفي الحفاظ على عنفوانها، وفي دفع
ثمنها.
غير أن تعثر المجلس الوطني الانتقالي في وضع العربة على السكة نحو تكوين
المؤسسات العامة للدولة وتشكيل هيكلية الدولة التي تقدم خدماتها للمواطنين في ظل
دولة القانون، والعدل، والإنصاف؛ جعل بعض الأفراد والجماعات تفكر في ملأ الفراغ
بأفكار وحركات وتوقعات لا تتوافق مع المبادئ الأساسية لثورة 17 فبراير. بحيث خرج
بعض الذين انضموا للثورة حتى يوم تحرير طرابلس إلى بعض الأصوات والمجموعات التي
تقول دون خجل من نفسها ومن موقفها أنها تملك الثورة، وبذلك فهي تملك حق الحصول على
مغنم من الثورة يختلف عما يحصل عليه بقية الليبيين. ووصل هذا الوهم إلى حد أنهم
قاموا بتكوين تنظيمات لهم، وطالبوا ولا زالوا يطالبون بأنهم يجب أن يتملكوا
وزارات، وأن يستلموا مرتبات مخصوصة، وسيارات محمودة، وبيوت مقصورة، وقروض للزواج
محترمة، ووظائف في قيادة المؤسسات، واعتمادهم خبراء في تقييم النزاهة والمؤهلات.
ثم ذهب بعضهم إلى المطالبة بأن يستولي على 40% من مقاعد المجلس الوطني الانتقالي،
وإلى الحصول على 12 مليار دينار ليفرّقها على أعضائه، وأن ينال حقه في الوزارات
بما يرضي شهوات ورغبات مؤيديه. وهذا مطلب غريب وعجيب. إلاّ إذا اعتبرنا أن ما حدث
في 17 فبراير انقلابا وليس ثورة !. فالانقلابين هم الذين يستولون على السلطة
لمنفعتهم وحدهم كما فعل الشيوعيون في روسيا، والصين، وكوريا الشمالية؛ وكما فعل
الطاغية وأعوانه في انقلاب سبتمبر المشئوم. أما إذا اعتبرنا 17 فبراير ثورة شعب
(وهي بحق كذلك) فمعناه أنها ملك للجميع في إطار الدستور والقانون.
فثورة الشعب الليبي بدأت منذ العام الأول بمقاومة الانقلاب المشئوم في
سبتمبر 1969م بمحاولات عسكرية متعددة. وصحيح كذلك أن طابور الشهداء لم يتوقف منذ
السبعينات إلى أن انطلق طوفان الغضب والثورة في 17 فبراير 2011م. كذلك فإن جميع
الفئات المهنية للمواطنين جاهدت على قدر طاقتها في الإعداد للثورة المأمولة طوال
عقود حكم فرعون المقبور. فالأم التي خرجت تزغرد وراء أبنائها وزوجها تحثهم على
الرجولة والجهاد هي مجاهدة في هذا الوطن . والمعلم الذي رضي بأن يعلّم أبناءنا
العلوم والوطنية بمرتب 137 دينارا شهريا وفي أسوأ الظروف هو مجاهد في هذا الوطن.
والطبيب الذي رضي بأن يعالجنا بمرتب 167 دينارا شهريا مع التحقير والإهانةة هو
مجاهد في هذا في هذا الوطن. والأستاذ الجامعي الذي علّم المعلمين، والمهندسين،
والأطباء مقابل معاش قدره 250 دينارا شهريا، مع التحقير والتصغير، ورفض الذهاب
للعمل في دول الخليج بآلاف الدولارات، والسيارة الفارهة، والشقة المفروشة،
والرحلات السياحية المجانية لأي مكان في العالم هو مجاهد في هذا الوطن. كذلك فإن
المهنيين والمناضلين الشرفاء الذين ضاقت بهم بلادهم خوفا على حياتهم من اضطهاد
الطاغية لهم؛ ورضوا التشرد والغربة والحرمان من الأهل والولد خارج البلاد وهم
ينغّصون على الطاغية ويكشفون للعالم ظلمه لشعبهم هم مجاهدون في هذا الوطن. وهؤلاء
وغيرهم الذين رفضوا أن يبيعوا أنفسهم للطاغية وأن يجلسوا على موائده ويلعقوا صحونه
وملاعقه؛ ورضوا أن يخدموا بلادهم من الداخل ويمنعوا التدمير الكامل للبلد؛ رغم
تهديدات زبانية الطاغية لأمنهم وتشديدهم عليهم في معاشهم وأمور حياتهم هم مجاهدون
أيضا في هذا الوطن. وهل كان بإمكان شباب ثورة 17 فبراير ليقوموا بالثورة لو لم
يقوى عودهم مع السنين وهم يستلهمون من أهلهم، وشعبهم، ومن هؤلاء المهنيين قصة
المعاناة، والاستعداد للثورة، والأمل في التحرير!.
فالرّجاء من ثوار الميدان والسلاح ألاّ يشوهوا جهادهم بأنانية المغرور
والمشغول بالدنيا لا بالوطن والدين. والرّجاء من المجلس الوطني الانتقالي أن يقتدي
بالإخوة في تونس بتكوين مؤسسات الدولة في أقرب الآجال حتى نخرج من شرنقة الفوضى،
والشائعات، والمجهول. لأن تقاعس، وتناقض، وتردد، وبطء، وغموض المجلس الوطني
الانتقالي في قراراته هو الذي أدى إلى ما نادت به جماعات المتكسّبين، والمتربّحين،
والمغامرين. وأخيرا أقول لمجلس ثوار مصراته بارك الله لكم وعيكم، وأمانتكم،
وسماحتكم بقولكم ما قاله الصحابي الجليل (بخ، بخ،) لتمر الدنيا وشهوتها ورغب في
محبة الله وجنته. وأخيرا؛ أدعوا الله أن يلهمنا طريق المحبة والقناعة وأن يكون
جميع الليبيين متساوين في الحقوق والواجبات وفقا لقانون الثورة وليس قانون
الانقلاب.
المصدر: ليبيا المستقبل
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق