{ مشكلة حرية الإنسان، من أهم المشكلات التي عالجها علماء الفلسفة والأخلاق، قديماً وحديثاً. ولا ريب أن من أهم العوامل التي أضفت الأهمية على هذه المسألة، شدة صلتها بحياة الإنسان الفردية والاجتماعية.
كما أن مسألة الحرية هذه، بقيت، على الرغم من شدة اهتمام الفلاسفة بها، وكثرة معالجتهم لها، أكبر معضلة تأبت على كل الحلول والاقتراحات التي تطارحها الفلاسفة، في مختلف عصورهم، وعلى تنوع مذاهبهم واتجاهاتهم!.
لقد بقيت آراؤهم واقتراحاتهم بصددها معزولة ومحصورة على صعيد الأقوال وفي بطون الكتب، وظل واقع المجتمعات الإنسانية بعيداً عنها، غير عابئ بها، حيث سارت الحرية الإنسانية متلونة ومتأثرة بأسباب وعوامل أخرى، كانت في كثير من الأحيان عوامل عشوائية كيفية، لم تنسقها أي إرادة واعية طبق منهج أو قرار مدروس.
ولست الآن بصدد عرض مذاهب الفلاسفة وصراعاتهم، حول تحديد معنى الحرية الإنسانية وعلاقتها بالسلوك الإنساني، وبيان مواقفهم المضطربة من نقيضها الذي ما زال يتربص بجوهرها، وينتقص من أطرافها وهو الذي يسمونه الضرورة أو الحتمية، بكلا قسميها: الداخلية، والخارجية.. أقول: لست الآن معنياً بعرض شيء من هذا كله. فهو لا يمت إلى الهدف الذي أقمت هذا البحث على محوره بأي سبيل.
وإنما المهم في هذا المقام، أن نتبين المشكلة التي إليها مرد اضطراب الفلاسفة في هذا البحث، والمعضلة التي هي سر عجز المجتمعات الإنسانية عن العثور على أي ثمرة أو حصيلة للكلام الطويل الذي أنشأه، والجدل المتشعب الذي خاضوا غماره، خلال قرون متطاولة امتدت إلى هذا العصر.
والذي يعنيني من إبراز هذه المشكلة، هو أن نعوّد أنفسنا، إذا أقبلنا على دراسة موضوع ما، في فن من الفنون، لا سيّما الفلسفة، أن نحاذر جيداً، من أن نضلّ في شعب الكلام ووراء متاهاته، بحيث ننسى حجم المسألة وإطارها الذاتي، فإن من استدرجتَه تعاريج الجزئيات، حتى خاض في تشقيقات الكلام، واستغرق في متابعة التحليلات المتعارضة، خليق به (في غمرة شتاته الذهني) أن يتوهم الاضطراب الحائر في جنبات البحث تعمقاً منهجياً في لبه وجوهره. فلا يعود من كل ما قرأه وتأمله إلا بالدهشة والانبهار، من جرّاء ذلك التحليل الذي أسلمه إلى أشتات من الفرضيات التي نبهته بدورها إلى أنواع من المشكلات!.. ولعلّ مثل هذا الباحث يمضي وقد اقتنع من الفهم السليم بتلك الدهشة التي بهرته، واطمأن إلى أنه قد وقع على كلام علمي عجيب، لا بدّ أنه الحق الذي يجب المصير إليه، وأنها الحقيقة الراسخة التي لا يأتيها الباطل من بين يديها ولا من خلفها!..
وإنما العاصم من الوقوع في فلك هذا الاستدراج والضياع ثم الانبهار، أن يبقى الباحث المتأمل متذكراً ومتصوراً حجم المسألة التي يعكف على دراستها، أي حقيقتها الكلية وإطارها الشامل الذي يفصلها عن كل ما قد يلتبس بها. فعندئذ لا يعجز الباحث الواعي عن التنبه إلى الفرق بين طبيعة التحليل العلمي الذي يدنو بصاحبه شيئاً فشيئاً إلى كشف خوافِي المسألة وحل معضلاتها، وطبيعة الحيرة في موضوع مغلق الأطراف، تطوف من حوله –إلى غير ما نهاية – الفروض والاحتمالات.
وإذا تبين لنا أن كل ما خلَّفه الجهد الفلسفي، قديماً وحديثاً، من مذاهب وآراء عن حرية الإنسان وما يكتنفها من ملابسات ويقف في طريقها من عقبات، ليس إلا تعبيراً واضحاً عن المشكلة التي استعصت على الحل، وليس بحال من الأحوال كشفاً عن أي خافية فيها ووصولاً إلى أي حقيقة علمية عنها – أقول: إذا تبين لنا ذلك، نكون قد تجاوزنا نصف الطريق إلى بلوغ الحل الصحيح لهذه المعضلة، لأن معرفة المشكلة (أي إدراك أنها مشكلة) تساوي كما يقولون اجتياز نصف الطريق إلى حلها.
ويحين لنا عندئذٍ أن نصغي إلى الحل الذي تقدم إلينا به الإسلام، ذلك الحل الذي يشعر به المسلم الذي وعى إسلامه، في سلوكه وممارسته العملية للحياة، ولكن قلّما يلتفت إليه أولئك الذين يأملون أن يصلوا إلى الحل العلمي والواقعي، من خلال الإصغاء إلى آراء الفلاسفة وعلماء النفس والأخلاق.} - - د. محمد سعيد رمضان البوطي
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق