منذ بداية السبعينات، وعقيب هزيمة1967 تزايدت تلك الدراسات والكتب التي تتحدث عن العقل العربي، ماضيه المنصرم، وحاضره المشهود، ومستقبله المنشود، وينتمي أغلب أصحاب تلك الدراسات إلى اتجاهين رئيسيين:
أولهما: المنتمون لما يسمى التيار القومي الداعون إلى وحدة العرب على أساس القومية المشتركة.
ثانيهما: المنتمون إلى الاتجاه التغريبي، بشكل عام، والذي يستقي نظرياته وآراءه من الغرب، وفي إطار ذلك الفكر الغربي.
والطرفان وإن اختلفا في الأفكار والنظرات، وفي الأهداف والمشارب إلا أنهما اتفقا على ضرورة الحديث عن (العقل العربي) كل من زاويته الخاصة، في تلك الآونة التي أعقبت انحسار الفكر القومي بهزيمة 67 من ناحية، وفقدان الثقة في المعطيات الفكرية الغربية من ناحية أخرى، وما ألجئوا إلى ذلك إلا نتيجة لتصاعد التيار الإسلامي بشكل عام .. فكانت المصلحة الجامعة بينهما هي الحديث عن العقل العربي والذي يقصد به العقل الإسلامي، وإن عبر عنه (بالعربي) تحاشيًا للصدام المباشر مع الإسلام من ناحية، ودسًا للسم في الدسم من ناحية أخرى.
وإنك لتعجب عجبًا لا يكاد ينقضي حين تقرأ كتابًا كاملاً لواحد من هؤلاء الكتاب، يتناول فيه الفكر العربي، والعقلية العربية، وصلة واقع الأمة بماضيها..
إلى آخر تلك الموضوعات التي يدندنون حولها فلا تكاد تجد، ولو مرة واحدة، كلمة (الإسلام) في طول الكتاب وعرضه! إنما هي كلمات مثل (التراث)، الماضي، (الدين)، (السلف) ليس إلا!
وإذن أمر يشتم منه رائحة الهوى، ولو كان بحثًا عن الحقيقة خالصاً لوجه الحق، لكان ذلك الحديث من أهم ما تتناوله الأقلام في هذه الآونة، فمما لاشك فيه أن (العقل العربي) يحتاج إلى الدرس والتحليل من زاوية إسلامية أولاً، ومن زاوية عربية ثانيًا، إلا أن ذلك الإخلاص يظهر ناقصًا في تلك الدراسات من حيث ألبست أهدافها لباسًا عربيًا لتقف موقفًا وسطًا يكفل لها أعينًا تقرأ وآذانًا تسمع، وعقولاً تخدع.
من تلك الدراسات كتب ثلاث سنتناولها في هذه المراجعات كمثال دال على ما وراءه:
1. بنية العقل العربي: د. محمد عابد الجابري.
2. خطاب إلى العقل العربي: د. فؤاد زكريا.
3. قصة عقل: د. زكي نجيب محمود.
الكتاب الاول: بنية العقل العربى
تذهب تلك الدراسة التي قدمها الدكتور المغربي محمد عابد الجابري كمحاولة لتحليل بنية العقل العربي، إلى تحديد طرق الفهم المختلفة التي استطاع العقل العربي خلال مرحلة نموه ونهضته أن يؤسس عليها معارفه، والتي تتلخص في ثلاثة طرق مختلفة المنهج، تعتمد: إما على تحليل (الخطاب)(ص13) واستنباط الألفاظ من المعاني، كما سلك أهل اللغة والبيان أو علماء الأصول والمتكلمون بمختلف اتجاهاتهم، أو على (الإشراق) والفهم الباطني للألفاظ، كما فعلت الصوفية من ناحية أو الشيعة والباطنية من ناحية أخرى (ص251)، وآخرها الاتجاه الفلسفي الذي ينطلق فيه العقل من التصورات الذهنية البحتة لإقامة بناء نظري ثم محاولة إقامة البرهان عليه، كما فعل الفلاسفة المنتسبون للإسلام.
وبشكل عام - وبرغم جدية الموضوع وأهميته - يمكن القول بأن الدراسة لم تقدم جديدًا في مجال فهم العقل العربي، بل كانت مجرد إعادة تصنيف لتلك الفرق المختلفة التي سلكت مسالك عقلية مختلفة، لأسباب عديدة، محاولة أن تجد في الإسلام ما يؤيد مذاهبها، دون التفات إلى حقيقة الإسلام كما فهمه أهل السنة والجماعة، الذين يعي المؤلف تمامًا الفرق بينهم وبين سائر الفرق التي تحدث عنها (ص 205 ، 66) بينما لم يقدم تحليلاً لمذهبهم البتة، ولا نملك إلا أن نسجل على المؤلف تحيزًا ظاهرًا لبعض الاتجاهات التي توافق منحاه العقلي بشكل عام، فالمعتزلة في رأيه، كانوا وظلوا دائمًا، الممثلين الرسميين والمخلصين للبيان والنظام المعرفي البياني (ص54)، كما أنهم الرواد الأوائل لما عرف (بعلم البلاغة) (ص64) وهم أصحاب (الرؤية العالمية) في الفكر الإسلامي (ص177)، بينما أهل السنة الأوائل - يعني الصحابة والتابعين - هم (النصيون) الملتزمون بحرفية ... النصوص فالعقل عند أهل السنة (يعني استشعار النص وهو ما يسمونه بالاجتهاد)! (ص53) وهم، - أي أهل السنة - يتعاملون مع النصوص على أساس من مجرد ... التقليد والاتباع وليس على أساس من التنظيم والتنظير كما فعل المعتزلة(ص66).
والكتاب - بعد - مليء بالتناقضات، وضعف التحقيق، فالمؤلف – في تعاطفه مع المعتزلة - يذهب إلى أن المعتزلة كانوا أشد وطأة على الشيعة من أهل السنة (ص66) بينما تجاهل حقيقة أن الاعتزال نفسه قد ذاب في مذهب الشيعة، بلى إنه حين أراد تقرير وجهة نظر المعتزلة الأوائل في العقيدة، اعتمد على القاسم الرسي الشيعي الزيدي لبيان ذلك المذهب (ص177).
ذلك التعاطف هو ما يوضح أسباب هجومه على ( سلطة السلف ) (ص133 ، 562) التي قرنها بسلطة (الماضي) والعادة، كذلك موقفه من الإجماع سواء في اللغة والنحو (ص127) أو في الفقه والتشريع، بل اعتباره أن أصل الإجماع هو مصدر القهر السياسي الذي عانت منه الأمة الإسلامية في تاريخها (ص134)!
ويذهب لإثبات مذهبه ذاك إلى أن خبر الواحد إنما يستمد قوته من إجماع الصحابة (ص125) وسلطة السلف ليس إلا! ويهاجم القياس كأصل شرعي، كما يتبين من طريقة مناقشته عند الأصوليين (ص137) مقارنة بما يقابلها من تعاطف مع ظاهرية ابن حزم التي يصورها على أنها تحرر من سلطة السلف، ومن القياس، وأنها دعوة للاجتهاد المبني على العقل! والتعامل المباشر مع النفر (ص515 ، 569) دون وساطة السلف - الصحابة والتابعين - أو غيرهم من العلماء والأئمة.
والحق أن الكاتب قد دخل مدخلاً وعرًا في مناقشة مسائل فقهية وأصولية متخصصة، تخرج عن مجال تخصصه كباحث في (الفلسفة)، أما عن مفهوم السببية كما تقرره عقلية العربي - حسب رأي المؤلف - فإن البيئة العربية الصحراوية توجه العقل إلى عدم ربط السبب بالنتيجة! (ص243)، وأنها تنشيء تلقائيًا ذلك المفهوم الذي ظهر لدى الأشاعرة في تفسير ارتباط السبب بالنتيجة على أنه حكم العادة الجارية بل إنه جعل المعتزلة كذلك من دعاة مذهب (العادة) - كالأشاعرة تمامًا - ليكتمل مفهوم النظرة الجزئية التي تولدها البيئة الصحراوية.. وهي نتيجة تؤكد خطورة تبني قوالب فكرية مسبقة، وإخضاع الأفكار والوقائع لمقرراتها مهما استلزم ذلك من اعتساف التحليل واضطراب النتائج، إلى جانب تجاهله لمفهوم السببية عند أهل السنة بشكل تام [1].
ثم يقدم المؤلف للعقلية العربية حلاً مبنيًا على ضرورة القضاء على سلطة السلف في حياة الأمة، والخروج من قيد اللفظ والنص، وإسقاط القياس كمسلك عقلي للاستنباط واعتماد (العقل) وحده بديلاً، من خلال عصر تدوين جديد يقوم على فكر الرباعي (المغربي) الأندلسي (ابن حزم - ابن رشد - ابن خلدون - الشاطبي).
الكتاب الثانى: خطاب إلى العقل العربى
أما الكتاب الثاني، فهو عبارة عن عدة مقالات مجموعة، صدرت في مجلة العربي للكاتب د. فؤاد زكريا، في الفترة ما بين 1976-1987 تحت عنوان (خطاب إلى العقل العربي) وتناول هذه المجموعة من المقالات عدة موضوعات، قسمها صاحبها إلى ثلاثة أقسام:
1- دافع الثقافة العربية .
2- الفكر والممارسة في الوطن العربي .
3- أضواء على العالم المعاصر .
والكاتب يعكس بشكل واضح خلطًا وقصورًا في فهم الإسلام، وتصور طبيعة العلاقات التي يجب أن ينبني عليها المجتمع المسلم.
فعلى الرغم من أن الكاتب قد تعرض لبعض الأسباب الرئيسية التي نشأ عنها الخلل الحالي في المجتمعات الإسلامية، كالحكم الفردي المطلق، والسلطة الإرهابية والوصاية على الشعوب بدعوى الجهل والتخلف، إلا أن التناقض يبدو في تحليلاته حين تنتقل من مجال الممارسة إلى مجال الفكر والثقافة.
والكاتب - كغيره من أصحاب الاتجاه اليساري المادي - يتوهم صراعًا دائرًا بين العلم والدين (ص64) في المجتمع الإسلامي، على غرار الصراع بين الكنيسة والعلم في أوربا القرون الوسطى، ويعزو لتلك المشكلة الموهومة أسباب التخلف والانحطاط (ص22)!.
كذلك فهو يرى أن أسس الدين الإسلامي، التي تقوم على أن القرآن لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وأن (كلمة الله الحرفية التي لا يتناولها التغيير ولا التبديل) (ص74)، يجعل من الصعب على المسلمين أن يتقبلوا تغييرًا في طبيعة العلاقة بين الله - عز وجل - وبين الناس على غرار ما تقبلته أوربا حين قدمت إلهًا يحكم العالم بالرياضيات، في فكر ديكارت، أو غير ذلك من صور العلاقة بين الخالق والمخلوق، التي تنحى فيها سلطة الخالق وسيطرته الفعلية على البشر بشكل تام وحاسم.
والحق أن إثارة مثل تلك المشاكل المفتعلة، وتقديم مثل تلك التحليلات الواهية إنما يعكس أمرين:
أولهما: ضحالة المعرفة وقصور الفهم بطيعة الدين الإسلامي، الذي يعرف الصغير الجاهل قبل الكبير العالم أنه لا تعارض بين التمسك بتعاليمه وقيمه وأحكامه الشرعية، وبين ارتياد الفضاء، أو استخدام الكمبيوتر، أو تحليل المواد إلى عناصرها للاستفادة منها.
وثانيهما: هو الرغبة الدفينة في تصوير العقبات أمام الأخذ بشرائع الإسلام كما أنزلها الله سبحانه دون تبديلها أو تغييرها، تحت شعار البحث الثقافي المنصف أو الرغبة في الإصلاح.
كما حاول الكتاب في قسمه الثالث إلقاء الأضواء على فساد المجتمع الرأسمالي وتناقضه، لحساب المجتمع الاشتراكي الذي يحمل - في رأي الكاتب – الحل الأمثل للأزمات الحالية، مع أن المنصف يعلم فساد النظم الرأسمالية وفشل التجارب الاشتراكية.
الكتاب الثالث: قصة العقل
وفي سلسلة الحديث عن العقل العربي، قدم الدكتور: زكي نجيب محمود كتابه قصة عقل (1983) الذي نحا فيه منحى السيرة الذاتية العقلية، مؤرخًا لرحلته الثقافية منذ اشتراكه في مجلة لسلامة موسى، بمقالات عن وحدة الوجود (ص18) إلى أن اتجه إلى الثقافة الغربية اتجاهًا تاماً، يصوغ من خلالها اتجاهه الفكري، وليتخير منها مذهبًا فلسفيًا يجعله له (هاديًا ونبراسًا) (ص93) هو مذهب (الوضعية المنطقية ) لفتجنشتين، وخلاصته: أن الكلمات التي يستعملها الإنسان (اللغة) نوعان:
نوع يمكن أن يعاين معناه مباشرة بالحس أو التجربة العلمية، وهو يحمل دليل صدقه، إذ ينطبق على موجود خارجي.
ونوع آخر يتناول ما وراء المحسوس، وهو لغو لا معنى له. فاللغة غرضها الأساسي هو أن تشير إلى موجودات فعلية تعاين بالحس لتكون مدلولاتها صادقة (ص92 و 115) وهذا النوع الأخير من اللغة هو من قبيل التعبيرات الوجدانية التي تقاس بمقاييس (الشعر أو ما إلى الشعر من وسائل التعبير) (ص116).
ولما كان الإيمان من قبيل الوجدانيات كما يراه المؤلف، وألفاظه تعبر عن معان ذاتية لذلك فهو (تصديق بغير برهان، وأما منطق العقل فطريقه البراهين)! (ص111). لذلك فالتعبيرات التي تتناول موضوعات كالإيمان أو غيره (هي تعبير ذاتي عما يخالج المتكلم من مشاعر.. وهاهنا لا منطق ولا قضايا تقاس بمقاييس موضوعية لتفرقة بين حق وباطل) (ص175).
وبناء على ذلك فإنه ليس من حق أي جماعة أن تتهم أنصار فكرة بعينها أنصار فكرة أخرى بالضلال إذا كان كل من الجماعتين مستندًا إلى مبادئ غير المبادئ التي تستند إليها الجماعة الأخرى (ص100). فالحق - إذن - في رأيه نسبي حين يختص بمسائل لا تخضع للتجارب المعملية، وأنصار كل فكرة أو دين هم على حق من وجهة نظرهم، ولا يحق لأحدهم أن ينظر للغير على أنه ضال أو منحرف! ولا يخفى ما وراء تلك الأفكار من ضلال وخطورة والتواء.
والكتاب جاء بعد محاولات سابقة للكاتب تهدف إلى نشر هذا المذهب من خلال الحديث عن الفكر العربي، وإحياء التراث، الذي تعرف عليه المؤلف منذ سنوات قليلة بعد أن تشرب الثقافة الغربية حتى النخاع، ولم يتمكن من التعرف على الفكر الإسلامي إلا من خلال (إحياء علوم الدين) للغزالي، أو (تهافت التهافت) لابن رشد، فجاءت محاولاته خالية من الإخلاص، عارية عن الخبرة، هادفة لهدم التراث من حيث تبدو محاولة لإحيائه! [2]
[1] راجع مفهوم السببية عند أهل السنة ، البيان، العدد الرابع / 38 .
[2] الأرقام ببن القوسين هي أرقام الصفحات التي يرجع إليها في المصدر الأصلي.
دكتور طارق عبد الحليم
[مجلة البيان اللندنية 1988]
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق