العقد يلزم به من العاقد ديانة وقضاء باتفاق الفقهاء لقوله تعالى:{يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود} [المائدة:5/1] وقوله سبحانه: {وأوفوا بالعهد إن العهد كان مسؤولاً} [الإسراء:17/34].
أما الوعد فلا يلزم الوفاء به قضاء عند غير المالكية، بل الوفاء به مندوب مطلوب ديانة، ومن مكارم الأخلاق، فلو وعد شخص غيره ببيع أو قرض، أو هبة مثلاً فلا يجبر على الوفاء بوعده بقوة القضاء، بل يندب له تنفيذه ديانة لقوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون كبر مقتاً عند الله أن تقولوا مالا تفعلون} [الصف: 61/2-3].
وقوله r: ~آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف ، وإذا اؤتمن خان}، هذا هو السائد عند الفقهاء، لكن توجد آراء قد تكون مخالفة للرأي السائد، وقد تكون ملطفة أحياناً بجعل الوعد ملزماً قضاءً في بعض الحالات.
قال ابن شبرمة: يلزم الواعد، ويجبر على الوفاء بوعده قضاءً، وقال الحنفية: يلزم الوعد إذا صدر معلقاً على شرط منعاً لتعزير الموعود، وعبروا عن ذلك بقاعدة فقهية: المواعيد بصورة التعاليق تكون لازمة كما في المجلة المادة/83/.
وقال ابن نجيم: لا يلزم الوعد إلا إذا كان معلقاً، مثل أن يقول شخص لآخر: إذا لم يعطك فلان ثمن المبيع فأنا أعطيه لك، فيلزمه إعطاؤه حينئذ، لأن الوعد اكتسى صفة الالتزام والتعهد.
وعند المالكية يلزم الواعد بوعده قضاءً إن أدخل الموعود في سبب، أو وعده مقروناً بذكر السبب كما قال (إصبغ) من فقهائهم، لتأكد العزم على الدفع حينئذ.
مثال الحالة الأولى: أن يقول لآخر: اهدم دارك وأنا أقرضك، أو أهبك ما تبني به الدار، أو اخرج إلى الحج وأنا أقرضك، أو اشتر سلعة، أو تزوج امرأة وأنا أسلفك ففعل الموعود ذلك فيجب على الواعد الإقراض أو الهبة، لأنه أدخل الموعود في الالتزام.
ومثال الحالة الثانية عند (اصبغ) أن يقول شخص لآخر: تزوج، أو اشتر وأنا أقرضك فيلزمه الوفاء بوعده، ولو لم يباشر الموعود فعل الزواج، أو الشراء، أي سواء تزوج الموعود، أو اشترى أم لا يلزم الواعد بما وعد دفعاً للضرر الحاصل للموعود من تغرير الواعد.
فإن وعده بدون ذكر السبب كأن يقول شخص لآخر: أسلفني كذا، فيقول المخاطب: نعم، لا يلزمه الوعد، والقوانين الوضعية المدنية تنفق مع رأي ابن شبرمة، وبعض علماء المالكية، على أن الوعد بعقد، أو بعمل ملزم قانوناً لتعلق حاجة الناس إليها وهو الصحيح.
والمعلوم عند المالكية أن الشخص إذا وعد غيره عدة بقرض، أو بتحمل وضعية (أي خسارة) أو إعارة أو نحو ذلك مما ليس بواجب عليه في الأصل فهل يصبح بالوعد ملزماً، ويقضي عليه بموجبه إن لم يف له، أو لا يكون ملزماً؟ اختلف فقهاء المالكية في ذلك على أربعة آراء فصلها الحطاب في رسالته في (الالتزامات)، ونقلها عنه الشيخ محمد عليش في فتاواه المسماة(فتح العلي1/255) في بحث مسائل الالتزام:
¯ فمنهم من يقول: يقضى بالعدة (أي الوعد) مطلقاً أي أنها ملزمة له.
¯ ومنهم من يقول: لا يقضى بها مطلقاً أي أنها غير ملزمة.
¯ ومنهم من يقول: إن العدة تلزم الواعد فيقضى بها إذا ذكر لها سبب وإن لم يباشر الموعود ذلك السبب، كما لو قال لآخر: إني أعدك بأن أعيرك بقري ومحراثي لحراسة أرضك، أو أريد أن أقرضك كذا لتتزوج، أو قال الطالب لغيره أريد أن أسافر، أو أن أقضي ديني فأسلفني مبلغ كذا، فوعده بذلك ثم بدا له فرجع عن وعده قبل أن يباشر الموعود السبب الذي ذكر من سفر أو زواج، أو وفاء دين، أو حراثة أرض.. الخ، فإن الوعد ملزم، ويقضى عليه بالتنفيذ جبراً إن امتنع.
¯ ومنهم من يقول لا يلزم بوعده إلا إذا دخل الموعود في سبب ذكره في الوعد، أي إذا باشر السبب كما وعده بأن يسلفه ثمن شيء ويريد شراءه فاشتراه فعلاً، أو أن يقرضه مبلغ المهر في الزواج اعتماداً على هذا الوعد ونحو ذلك، وهذا هو الراجح في المذهب من بين هذه الآراء الأربعة.
¯ لو قال شخص لآخر بع كرمك الآن، وإن لحقتك من هذا المبيع وضيعة (خسارة) فأنا أرضيك فباعه بالوضيعة (بالخسارة) كان على القائل أن يرضيه بما يشبه ثمن ذلك الشيء المبيع والوضيعة منه (أي يتحمل عنه مقدار الخسارة) وهو قول ابن وهب. قال أصبغ: وقول ابن وهب أحب إلي. قال لبن رشد: لأنها عدة على سبب، وهو البيع، وأن العدة إذا كانت على سبب لزمت بحصول السبب في المشهور من الأقوال.
¯ ولو قال لآخر: تعامل مع فلان، وما يثبت لك عليه من حقوق فأنا كفيل به صحت الكفالة.
يقول الدكتور وهبة الزحيلي في (المستدرك) وهو الجزء التاسع من الفقه الإسلامي/556/: الوعد (وهو الذي يصدر من الآمر أو المأمور على وجه الانفراد) يكون ملزماً للواعد ديانة إلا لعذر، وهو ملزم قضاءً إذا كان معلقاً على سبب ودخل الموعود في كلفة نتيجة الوعد، ويتحدد أثر الإلزام في هذه الحالة إما بتنفيذ الوعد، وإما بالتعويض عن الضرر الواقع فعلاً بسبب عدم الوفاء بالوعد بلا عذر.
وهذا أحد مقررات مجمع الفقه الإسلامي المنعقد في دورة مؤتمره الخامس الكويت (1409هـ 1988م).
وعند الشافعية أن الوعد ليس ملزماً قضاءً. قال الإمام الشافعي في كتاب (الأم 3/33): ~إذا أرى الرجل الرجل السلعة فقال: اشتر هذه وأربحك فيها كذا، فاشتراها الرجل، فالشراء جائز، والذي قال أربحك فيها بالخيار، إن شاء أحدث فيها بيعاً، وإن شاء تركه، وهكذا إن قال: اشتر لي متاعاً وصفه له، أو متاعاً أي متاع شئت، وأنا أربحك فيه، فكل هذا سواء يجوز البيع الأول، ويكون هذا فيما أعطى من نفسه بالخيار}.
قلت: كيف يكون بالخيار وقد تورط المشتري بشراء سلعة أو بضاعة لا يريد شراءها ابتداءً أو لا يستطيع بيعها بوصفها وكميتها لأنها غير مرغوب فيها مثلاً، أليس في ذلك تغرير بالمشتري وإلحاق الأضرار البالغة فيه، ولا أظن أن الشافعي يرضى بذلك التغرير، والضرر الكبير مع العلم أن الضرر محرم، ولا ضرر ولا ضرار، والله تعالى أعلى وأعلم.
راجع كتاب (الفقه الإسلامي وأدلته) للزحيلي 4/90-91، وكتاب (الفروق) للقرافي 4/24-25، وكتاب (فتح العلي) للإمام مالك 1/255.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق