الأحد، مارس 23، 2014

التجربة الدستورية الليبية في العصر الحديث الحلقة 82 ..... د. محمود سليمان موسى

 مدى دستورية التعديلات التي طرأت على النظام الاتحادي

جرى تعديل بعض النصوص الواردة في دستور السابع من أكتوبر 1951، وذلك بموجب القانون رقم 28 لسنة 1962 الذي  صدر في نهاية عهد الرئيس محمد عثمان الصيد، وكذلك القانون رقم 1 لسنة 1963 الذي صدر في أثناء ولاية الدكتور محي الدين فكيني. وتتعلق أغلب هذه التعديلات بالنظام الاتحادي الذي أخذ به الدستور الليبي منذ صدوره، كشكل للدولة الجديدة، وهو النظام الذي أنعكس بدوره على تسمية الدولة ب المملكة الليبية المتحدة "، وكذلك على النظام التشريعي والبرلماني والقضائي والإداري بصفة عامة.

وقد ظل هذا النظام مطبقا في ليبيا حتى صدور تلك التعديلات التي ترتب عليها إلغاءه. وكان مقتضى وهدف هذه التعديلات،إلغاء النظام الاتحادي وتحول المملكة الليبية المتحدة من النظام الاتحادي الفيدرالي إلى نظام الدولة البسيطة الموحدة، ولتسمى بعد ذلك بـ "المملكة الليبية". فهل كانت هذه التعديلات صحيحة من الوجهة الدستورية؟ بمعنى هل جاءت موافقة لأحكام الدستور ومطابقة له؟ أم أنها كانت مخالفة له؟
وقبل الإجابة على هذا السؤال، يجب علينا الإشارة إلى أن تعديل النظام الاتحادي وتنقيحه، كان أمرا متوقع الحدوث، وأنه لم يكن حدثا غريبا، أو بعيدا عن الاحتمال، بل أن الدستور نفسه توقع هذه النتيجة، ولهذا نجد المادة 199 من الدستور قد جاءت خصيصا لمعالجة وتنظيم هذه المسألة تحديدا، أي مسألة تعديل وتنقيح النظام الاتحادي، إذ تنص هذه المادة صراحة على أنه" في حالة تنقيح الأحكام الخاصة بشكل الحكم الاتحادي يجب زيادة على الأحكام المقررة في المادة السابقة موافقة مجالس جميع الولايات على التنقيح المقترح، وتتم هذه الموافقة بقرار يصدره المجلس التشريعي لكل ولاية في هذا الشأن قبل عرض التنقيح على الملك ". والأصل في الدستور الليبي أن أحكامه قابلة للتعديل والتنقيح، وفي ذلك تنص المادة 198 على أنه " لأجل تنقيح هذا الدستور يصدر كل من المجلسين بالأغلبية المطلقة لأعضائه جميعا قرارا بضرورته وبتحديد موضوعه، ثم بعد بحث المسائل التي هي محل التنقيح يصدر المجلسان قرارهما في شأنها، ولا تصح المناقشة والاقتراع في كل من المجلسين إلا إذا حضر ثلاثة أرباع عدد أعضائه ويشترط لصحة القرارات التي تصدر بأغلبية ثلاثة أرباع الأعضاء الحاضرين في كل من المجلسين وأن يصدق عليها الملك ".
وبموجب هذه النصوص الدستورية، فإن تعديل أو تنقيح شكل النظام الاتحادي، أمر ممكن، ولكن الدستور ولأهمية الأمر ولارتباطه المباشر بشكل الدولة ونظامها السياسي، قد أحاطه بعديد من الشروط والضوابط والمتطلبات، كي يكون مثل هذا التعديل صحيحا، وعلى ذلك يمكن الجزم بأن تعديل أو تنقيح شكل النظام الاتحادي هو مسألة نص عليها الدستور، ولكن بالشروط التالية:
الشرط الأول: أن تكون فكرة التعديل برلمانية المصدر:
يشترط الدستور في المادة 198 لجواز تعديل وتنقيح شكل النظام الاتحادي أن يكون اقتراح التعديل صادرا من البرلمان بمجلسيه معا، أي من مجلس الشيوخ ومجلس النواب، وأن يصدر قرارا من المجلسين يتضمن ضرورة التنقيح وتحديد الموضوع المتوجب التعديل والمسائل التي هي محل التنقيح.
الشرط الثاني: يجب أن يكون الاقتراح محددا وصادرا بالأغلبية المطلقة لأعضاء البرلمان:
وقد اشترط الدستور لصحة التعديل في شكل النظام الاتحادي، أن يصدر الاقتراح بإجراء هذا التعديل بقرار يصدره المجلسين بالأغلبية المطلقة، وأن يتضمن أيضا الأسباب التي تقتضي هذا التعديل وتبين ضرورته، فإذا كانت هذه الأسباب لا تصل إلى حد الضرورة، فإنها لا تكفي أساسا لإجراء التعديل في شكل النظام الاتحادي، كذلك لا يكفي أن يكون قرار الاقتراح صادرا بأغلبية ثلاثة أرباع المجلسين الحاضرين، بل يجب أن يكون صادرا بالأغلبية المطلقة لأعضاء المجلسين جميعا.
الشرط الثالث: وجوب أن يصدر التعديل بأغلبية ثلاثة أرباع الأعضاء الحاضرين:
ويجب كي يكون التعديل صحيحا أن يحضر مناقشة الاقتراح بالتعديل ثلاثة أرباع الأعضاء في المجلسين، ويشترط لصحة القرارات الصادرة في هذه المسألة، ان تصدر بأغلبية ثلاثة أرباع الأعضاء الحاضرين. وهنا يفرق الدستور بين مسألة طلب الاقتراح بالتعديل، ويتشدد فيها، إذ يتطلب الأغلبية المطلقة لأعضاء البرلمان جميعا، بينما يكتفي في حالة  التعديل أن يكون صادرا بموافقة ثلاثة أرباع الحاضرين.
الشرط الرابع: موافقة جميع المجالس التشريعية في الولايات:
تضمنت هذا الشرط المادة 199 من الدستور، ولهذا ولكي يكون تنقيح الأحكام الدستورية المتعلقة بشكل النظام الاتحادي صحيحا، يجب أن توافق على هذا التنقيح الولايات الثلاثة من خلال صدور قرار بهذا الشأن من المجالس التشريعية الثلاثة، فإذا وافقت ولايتان فقط لم يعد ممكنا إجراء التعديل أو التنقيح، حتى لو صدر القرار بالتعديل من البرلمان وبأغلبيته المطلقة، إذ أن موافقة المجالس التشريعية الثلاثة تعتبر شرطا ضروريا ومتطلبا لصحة التعديل أو التنقيح.
ومما تجب الإشارة إليه في هذا المقام، أن لجنة الدستور المعروفة بلجنة الثمانية عشر، وكذلك لجنة العمل قد تناولتا هذه المسألة بشيء من التفصيل والاهتمام، وقد اختلفت الآراء بشأنها، فقد اتجه البعض إلى أن  تنقيح وتعديل الأحكام المتعلقة بشكل النظام الاتحادي يجب أن تتم الموافقة عليه من ولايتين فقط من الولايات الثلاث، بينما تمسك البعض الآخر بوجوب الموافقة الإجماعية من كل الولايات الثلاث على التعديل أو التنقيح، وقد برر السيد عبد الجواد الفريطيس عضو الجمعية الوطنية التأسيسية وعضو لجنتي الدستور والعمل، هذا الشرط، بأنه إذا كان النظام الاتحادي قد تمت الموافقة عليه من الولايات الثلاث جميعها، فلا بد أن يكون تعديله او تنقيحه بموافقة هذه الولايات الثلاث جميعها. وقال " إننا أخوة، وليس من شروط الأخوة، أن يرغم أحد الأخوة على شيء لا يريده "، وقد أيده العضو خليل القلال على ذلك بقوله إن النظام الاتحادي قام على أساس الاتفاق بين الولايات الثلاث، ولذا يجب لحصول التعديل عليه أن يحصل على موافقة هذه الولايات الثلاث جمميعها " (محاضر الجمعية الوطنية التأسيسية، جلسة 24، بتاريخ 16 سبتمبر 1951 )، ص 198. وقد أخذت الجمعية الوطنية التأسيسية، بهذا الرأي، وجعلته موضوعا لنص المادة 199 من الدستور.
الشرط الخامس: تصديق الملك:
وكأي إجراء تشريعي يصدر عن البرلمان بمجلسيه، يجب لنفاذه وصحته أن يكون مصدقا عليه من الملك باعتباره رأس الدولة، ولهذا فإن الدستور تطلب مصادقة الملك على قرار التنقيح الصادر من البرلمان والذي تمت الموافقة عليه من المجالس التشريعية الثلاثة في الولايات، فإذا كان هذا القرار مستوفيا شروطه وعناصره، كان الملك ملزما بالتصديق عليه، عملا بالمادة 135 من الدستور. وهنا يثور السؤال هل توافرت هذه الشروط والعناصر في التعديلات الدستورية التي مست شكل النظام الاتحادي؟ أم أن هذه التعديلات كانت مخالفة لأحكام الدستور؟
يمكن القول بأن ثمة مخالفة لأحكام الدستور قد شابت التعديلات الدستورية المتعلقة بإلغاء النظام الاتحادي، وهذه المخالفة كانت جسيمة وفاضحة بالنسبة للتعديل الدستوري الأول الذي تضمنه القانون رقم 28 لسنة 1962، وكذلك بالنسبة للتعديل الدستوري الثاني الذي تضمنه القانون رقم 1 لسنة 1963، وعلى  التفصيل التالي:
أولا:  بالنسبة للتعديل الأول الذي أحدثه القانون رقم 28 لسنة 1962
يلاحظ بجلاء أن هذا القانون لم يراع الشروط  والمتطلبات المنصوص عليها في الدستور والمتعلقة بصحة إجراء التعديل في شكل النظام الاتحادي، فقد تضمن هذا القانون أحكاما مست في العمق، شكل النظام الاتحادي في المملكة الليبية المتحدة، دون مراعاة لما يقتضيه الدستور من ضوابط وشرائط جوهرية كان يجب التقيد بها في أي حالة تتعلق بإجراء تعديل في شكل النظام الاتحادي، ولكن القانون صدر دون مراعاة هذه الضوابط والشروط،  ولهذا السبب فقد جاء مخالفا لأحكام الدستور ومن جميع النواحي وفي كثير من الوجوه.
ومن ذلك مثلا، أنه صدر بناء على اقتراح من الحكومة ، أو من الملك حسب ما ورد في خطاب رئيس الوزراء المرحوم محمد عثمان الصيد، ولم يصدر الاقتراح بالتعديل من البرلمان على أي نحو، وكان ينبغي أن يصدر الاقتراح بالتعديل من البرلمان بمجلسيه ( النواب والشيوخ ).
كما لم يعرض التعديل الذي تضمنه القانون رقم 28 لسنة 1962 على المجالس التشريعية للولايات، وإنما صدر هذا القانون باعتباره قانونا عاديا بناء على اقتراح الحكومة، وكأي قانون آخر، ويتبين ذلك جليا من ديباجة القانون، إذ  تضمنت " نحن إدريس الأول ملك المملكة الليبية المتحدة، قرر مجلس الشيوخ ومجلس النواب القانون الآتي نصه وقد صدقنا عليه وأصدرنا ". وقد كان عنوان القانون المذكور " قانون بتعديل بعض أحكام الدستور ". وهذا ما جعل هذا القانون مخالفا لأحكام الدستور من زوايا كثيرة، وعلى نحو صريح، فقد تضمن تعديلات في شكل النظام الاتحادي بطريقة مخالفة للشروط والمتطلبات التي يقتضيها الدستور، وهي الشروط والمتطلبات التي سبق بيانها. لاسيما وأن الدستور، وإن منح الملك والحكومة حق اقتراح القوانين، لكنه لم يعطهما حق اقتراح تعديل أو تنقيح أحكام الدستور، وإنما حصر هذا الحق في البرلمان وبأغلبية مطلقة من مجلسيه على النحو الذي بيناه فيما تقدم. ولهذا السبب فقد اعترض عليه البعض، وانهالت على الملك والحكومة، برقيات الرفض والاعتراض على القانون من كثير من المناطق الليبية، وكان سببا في استقالة السيد محمود أبو هدمة والي برقة. وكان يتعين لصحة هذا التعديل أن يكون موافقا لأحكام الدستور، وذلك بإتباع الوسائل والطرق والآليات التي حددها الدستور في مثل هذه الحالة، ولعل أبرزها موافقة المجالس التشريعية في الولايات الثلاث، وصدور الاقتراح بالتعديل من البرلمان وبالأغلبية المطلقة، وهذا ما لم يتوافر ولم يتحقق في التعديل الأول.
ثانيا: بالنسبة للتعديل الثاني الذي أحدثه القانون رقم 1 لسنة 1963.
على أن التعديل الثاني وإن جاء مخالفا لأحكام الدستور، لكن يبدو أنه كان أقل مخالفة من القانون الأول الذي تجاهل تماما العناصر والأسس الضرورية لصحة التعديل الدستوري في شكل النظام الاتحادي، ولهذا نلاحظ أن القانون رقم 1 لسنة 1963 تضمن في ديباجته الإشارة إلى هذه الأسس والعناصر، حين ورد بها " نحن إدريس الأول ملك المملكة الليبية المتحدة، قرر مجلس الشيوخ ومجلس النواب القانون الآتي نصه، ووافقت عليه المجالس التشريعية على الأحكام الواردة فيه المتعلقة بتعديل شكل الحكم الاتحادي وقد صدقنا عليه وأصدرناه". وهكذا صدر القانون، وكما لو أنه  راعى وتقيد والتزم بالشروط والمتطلبات التي وضعها الدستور. ووجه المخالفة في هذا التعديل الثاني الذي بموجبه تقرر إلغاء النظام الاتحادي، أنه جاء بناء على اقتراح من الحكومة، ولم يصدر بناء على اقتراح من البرلمان، كما وأن المجالس التشريعية في الولايات الثلاث وافقت عليه بعد صدور القانون من البرلمان، وكان يجب أن يسبق موافقة البرلمان، موافقة المجالس التشريعية، وهذا الترتيب نص عليه الدستور باعتباره شرطا جوهريا يترتب على مخالفته البطلان المطلق لتعلقه بمسألة دستورية أساسية.
وفي جميع الأحوال، وبصرف النظر عن الشروط الشكلية المنصوص عليها في الدستور، فإن القانونين اللذين صدرا في شأن إلغاء النظام الاتحادي كانا مخالفين للدستور، ليس فقط من الناحية الشكلية، بل وكذلك من الناحية الموضوعية، ذلك لأن الدستور أجاز التعديل والتنقيح في شكل النظام الاتحادي، وكلا القانونين لم يلتزما بذلك، بل تجاوزاه إلى حد الإلغاء، وهناك فرق كبير بين التنقيح الذي نص عليه الدستور وأجازه، وبين الإلغاء الذي  لم ينص عليه الدستور ولم يجيزه، فالقانونين لم يعدلا شكل الحكم الاتحادي ولم ينقحاه، بل إنهما ألغيا هذا النظام بصورة كلية، وهذا ما لم يبح الدستور أو يسمح به، فكانا بذلك مخالفين للدستور على نحو واضح لا لبس فيه ولا غموض، وعلى ذلك فإن القول بوجود تعديل في أحكام الدستور سنتي 1962 و1963 هو قول مجاف للحقيقة. ومن أجل ذلك، ولكي يلقى القانونان قبولا ورضاء من الرأي العام، فقد وصفا بإنهما قانونان من أجل الوحدة الوطنية، بل واعتبر يوم صدور القانون الثاني في 25 إبريل 1963 عيدا للوحدة الوطنية، وكأن البلاد  كانت مقسمة قبل هذا التاريخ. ولو راجعنا التعديلات التي تضمنها القانونان، لوجدنا أن الأمر كله لم يخرج عن نطاق الوظائف والمهام الحكومية التي تمارسها السلطات القائمة، ولا شيء جديد خارج هذا النطاق وإن كل ما تضمنه القانونان كان ينحصر فقط  في تقوية السلطة الاتحادية التي أصبحت بمقتضى تلك التعديلات سلطة مركزية تتمتع باختصاصات واسعة. فهل في احتكار السلطة التنفيذية لكل الصلاحيات والاختصاصات، هو ما يعني قيام الوحدة الوطنية؟! أم أن المقصود بهذه الوحدة هو تقسيم المملكة  إلى عشرة وحدات إدارية محدودة الاختصاصات ومعدومة  الاستقلال بدلا من ثلاث ولايات ذات صلاحيات واستقلال في نطاقها المحلي؟
وبهذا نكون قد انهينا الحديث عن الخصائص العامة والملامح الرئيسية لدستور السابع من أكتوبر، ورأينا أن النظام الاتحادي كان من بين أهم تلك الملامح وأبرز الخصائص التي تميز بها الدستور الذي تعطل العمل به في أعقاب انقلاب أول سبتمبر 1969. وهنا يثور السؤال المحوري: ما هو مصير هذا الدستور؟ وما مدى استمرارية شرعيته؟ وهل يمكن لهذا الدستور أن يفقد شرعيته بانقلاب أو عملية سطو؟ وهذا ما سنعرض له في الموضع القادم.
د.محمود سليمان موسى   



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق