من المتوقع إنعقاد المؤتمرالوطني
العام في الثامن من هذا الشهر، ومن المسائل الوطنية المهمة ما يتعلق بمهام إعداد
الدستور الدائم ، وهي مهام سبق تناولها في إطار
المجلس
الوطني الانتقالي من خلال إجراءات قديمة وحديثة.
وفي 5. 7. 2012 أصدر
المجلس المذكور التعديل الدستوري رقم 3 لسنة 2012 م قاضيا بتعديل الفقرة الثانية من البند السادس من المادة 30
من الإعلان الدستوري التي تناولت مراحل بناء الدولة. وأعتمد التعديل الاقتراع الحر
المباشر في تشكيل هيئة تأسيسية من غير أعضاء المؤتمر الوطني العام
تتولى صياغة مشروع دستور دائم للبلاد، وذلك من ستين عضوا على غرار لجنة
الستين التى شكلت لإعداد دستور استقلال ليبيا عام 1951 م. ونص التعديل على تولي
المؤتمر الوطنى العام تحديد معايير وضوابط انتخاب لجنة الستين والتى يراعى فيها
وجوب تمثيل مكونات المجتمع الليبي ذات الخصوصية الثقافية واللغوية .
وبرزت بعض الاصوات، بما في ذلك اصوات قوى
سياسية في المؤتمر الوطني العام، منددة بهذا التعديل وتوقيته المتأخر ومدى
إختصاص المجلس الوطني الإنتقالي بإصداره قبل إنتخابات المؤتمر الوطني العام بقليل
في جلسة طارئه، وأعتبر التعديل مناورة سياسية حركتها على عجل، في المجلس
الإنتقالي، حسابات الربح والخسارة في إنتخابات المؤتمر الوطني العام، وبالتالي
السعي للنيل من إختصاصاته لصالح هيئة تأسيسية تتيح إنتخاباتها القادمة فرصة
تلافي ماتم وإسترداد المواقع. وكرد فعل على هذا النهج تكررت مطالبة المؤتمر بإعادة
النظر في التعديل بل بالغائه وبالتالي "إسترداد" إختصاصه بإختيار أو بالأحرى
"تعيين" أعضاء الهيئة. و تصدت أقلام أخرى لهذا الطرح مثيرة خلفيات
التعديل، منبتة الصلة بتطور الإنتخابات وحساباتها الضيقة، وجذوره القديمة المتصلة
بواقع الثورة ومستقبلها ومقتضيات الوحدة والمصلحة الوطنية العليا ودروس الممارسات
الدستورية المتواترة.
ويفرض هذا النقاش إبداء بعض الملاحظات منها:
- يجب التذكير بأن الأمر يتعلق بهيئة صياغة دستور دائم يمثل العقد الإجتماعي لكل الليبيين، وبذلك يمكن فهم إهتمام الجميع بهذه الهيئة وصلاحياتها، وسبب تعرض المادة 30 من الإعلان الدستوري لثلاثة تعديلات متتالية. ولم يكن التعديل الأخير هو أول تعديل للمادة 30 المذكورة فقد سبقته، وقبل إنتخابات المؤتمر الوطني العام بشهور، تعديلات أخرى تناولت تشكيل الهيئة وإختصاصاتها : لجنة لصياغة الدستور تشكل وتعمل في إطار المؤتمر الوطني العام، هيئة الستين التي يشكلها المؤتمر الوطني العام من غير أعضائه، إلى التعديل الأخير الذي جعل إختيار أعضاء هيئة الستين بالانتخاب وليس بالتعيين. وكان وراء جميع هذه التعديلات مطالب متواترة لمكونات جغرافية وإجتماعية هامة للشعب الليبي أستمرت لشهور طويلة وكادت أن تعصف بعملية إنتخاب هذا المؤتمر بل و تؤثر جديا على مستقبل الديمقراطية ووحدة الوطن. ومن هنا برر إصدار هذا التعديل والتعديلات السابقة بمقتضيات مصلحة وطنية عليا متصلة بالوحدة الوطنية ومستقبلها.
- لقد أعتمد التعديل الأخير الاقتراع الحر المباشر في تشكيل الهيئة التأسيسية، وعلى مستوى المبادئ يصعب الطعن في الانتخاب كأسمى أساليب الديمقراطية والدفع بإستبداله بالتعيين! إن إنتخاب الهيئات التأسيسية، وهو السائد في ممارسات الدول بما في ذلك دول الجوار التواقة إلى الديمقراطية " تونس مثلا"، هو اساس الديمقراطية الحقيقية والضامن الاسمى لحقوق الجميع وحرية ضحى من اجلها الشهداء، وهذا ما يظهره تاريخ مجمل النظم الديمقراطية.
- إن السعي إلى إحياء إختصاصات دستورية هامة لمؤتمر وطني، ليس في شروط إختيار اعضائه ما يتعلق بإعداد الدستور، سيحي ويلهب ذات التحفظات والمشاغل السياسية التي أثيرت حتى الأمس القريب حول قواعد إنتخابه. ذلك في الوقت الذي يتعين فيه إعداد الدستور بتوافق وطني بعيداً عن الإعتبارات السياسية والفئوية الوقتية الضيقة. وفي كل الأحوال فإن التوجه نحو تجاوز التعديل النافذ وإناطة إختيار أعضاء الهيئة التأسيسية بالمؤتمر يفرض أن يقترن بوضع ضوابط شفافة يلتزم بها تؤمن حسن اختيار اعضاء الهيئة كهيئة تأسيسية تختلف شروط إختيار أعضائها جذريا عن شروط إختيار أعضاء الهيئات النيابية التقليدية. و ضمان الإستقلال التام للهيئة ، كهيئة تأسيسية يتعين الا تخضع لأية إرادات أومواقف خارجها.
- إن المصلحة الوطنية قد تتحقق من خلال عدم إقحام مؤتمر"إنتقالي" في مناقشات سياسية لن تنتهي سوى بإطالة مرحلة إنتقالية صعبة من خلال إجراءات لا نهاية منظورة لها بشأن آداة صياغة الدستور. إن هذه المصلحة تملي تركيز المؤتمر خلال المدة القصيرة المحددة له على إختصاصاته التشريعية/الحكومية كجهاز سياسي إنتقالي منتخب يخلف مجلس وطني إنتقالي غير منتخب، وهي العديدة والهامة. وتبرز هنا بإلحاح مهام تصريف الأعمال وإنتظام نشاطات المرافق العامة والمهام المتعلقة بالأمن والإستقرار وما يتصل بذلك حول إنهاء المظاهر المسلحة كأولوية حيوية من اولويات عمله وعمل الحكومةالقادمة. يضاف لذلك إختصاصات هامة أخرى بما في ذلك ما أنيط به بموجب التعديل الاخير للاعلان الدستوري من إختصاص مؤثر في بناء دولة المستقبل، وهو تحديد معايير وضوابط إنتخاب اعضاء الهيئة التأسيسية بما تكفل ـ وفق ما جاء في التعديلـ تمثيل جميع مكونات المجتمع الليبي بكل خصوصياته الثقافية واللغوية. بذلك يؤدي المؤتمر رسالة تاريخية هامة ويساهم بفعالية في بناء دولة القانون والديمقراطية المنشودة من خلال معايير وضوابط شفافة تؤمن إختيار كفاءات وطنية تتمتع بحكمة ومسؤولية وطنية تسمو على الحسابات الإنتخابية الضيقة.
- على هذا الأساس يتم تناول الأمور المعقدة التي تتضمنها أحكام الدستور، من خلال هيئة تأسيسية مستقلة تتوفر في أعضائها القدرة على وضع دستور دائم وتتفرغ لصياغة واعتماد مشروع الدستور خلال المدة القصيرة المتاحة "لا تتجاوز مائة وعشرون يوما من انعقاد اجتماعها الأول "، ومن خلال قرارات تصدرها بأغلبية غايتها ضمان توافق وطني لا غنى عنه في إصدار الدساتير " أغلبية ثلثي الأعضاء زائد واحد". بذلك نضمن فعالية أعمال إعداد مشروع دستور توافقي وما ينطوي عليه من بحث ودراسة من خلال عناصر مؤهلة متوفرة في كافة المناطق الليبية وجامعاتها. بهذا تستبعد مخاطر الهيمنة السياسية أو حتى الاستبداد التي تنجم عن تركيز جميع السلطات، التأسيسة والتشريعية والحكومية، بيد كيان سياسي يضم تيارات وأجندات سياسية متباينة، ويتم وضع دستور جميع الليبيين من قبل هيئة مستقلة و شفافة تمثلهم جميعا لتعكف على إعداد دستور توافقي دائم.
د. عبد الرازق
المرتضي
عضو لجنة القانون الدولي/ جنيف
6 اغسطس 2012
www.aelmurtadi.com
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق