الثلاثاء، أغسطس 07، 2012

التّعويض الحقيقي!.... منى السّاحلي

كثر الخوض في حديث التّعويضات بين مؤيّد ومعارض، وتوالت ردود الأفعال، وتفرّعت المسائل، وحمي النّقاش، وارتفعت الأصوات..هذا يردّ على هذا، وذاك يقدح في ذاك ويتّهمه بالحسد والحقد ...إلى غيرها من التّهم والأوصاف. والمسألة أعمق من هذا الهرج والمرج والعراك والقذف والمزايدات.
لا أريد أن أتمادى في الظن، ولا أن أسيئه بمن أثار هذه الزوبعة في الفنجان؛ لأقول إنّها كانت مقصودة لذاتها لإلهاء الناس بعضهم في بعض وصرفهم عن متابعة أداء المسؤولين ومحاسبتهم، أو عن مناقشة المستجد والخطير من أمورهم بما في ذلك التلكؤ في محاكمة السيف القذافي الذي تتصرّم الأيام ولا نسمع إلا ما يوجع القلب من أمر التهاون في المحاكمة مما يزيد من مطالب المحكمة الجنائية الدّولية في تسليمه مما يعدّ تقصيراً شنيعا من المجلس الانتقالي والنيابة العامة، وتفريطاً في حقوق الليبيين لن يسامحهم القضاء الليبي الحقيقي عليه، طال الزمان به ليرى النور أم قصر!

لنتفق أوّلاً على أن الشّرفاء الذين ناضلوا سواء بالقول أو بالفعل كانوا يدركون أنّهم يغامرون براحتهم، ويعرّضون أنفسهم وأسرهم للخطر في عهد طاغية لا يراعي حرمة لدين الله، ولا لحقوق إنسان، ولا لأعراف اجتماعية أو دولية، فكيف يراعي في من يراهم (كلاباً ضالّة، كما في ألفاظه الأولى، أو جرذاناً كما في معجمه الأخير!) أيّ حرمة، أو حقّ، أو كرامة؟!! بل إن مواقفهم ساعة الفتك والبطش والقبضة الحديديّة لتتضاءل أمامها كلّ البطولات والعنتريّات حين الرّخاء والأمن والطمأنينة. وهم- مع ذلك- ما كانوا ينتظرون تكريماً أو تشريفاً أو جزاءً أو شكورا، بل كانت مواقفهم من أجل نصرة الحق، والدّين والوطن تحقيقاً لإنسانيتهم ومبادئهم..فهل يتسوّلون الآن تشريفاً أو تكريماً، أم يطالبون ثمناً لمعاناتهم وآلامهم؟!
ولنتّفق ثانياً أنّ ما قدّم هؤلاء الشرفاء، وما وقع عليهم من ظلم وعسف، وما ضاع من أعمارهم- أكثرهم قضى زهرة شبابه في غيابات السجون المعتمة- وأعمار أبنائهم وأسرهم في شقاء وظلام وقهر وعذاب لا تعوّضه كنوز الدنيا مهما عظمت، إنها مجتمعة لا يمكن أن تعوّض يوماً واحداً من أيّام السجن الحالكة، وبؤسه المهين! أيّة كنوز تلك التي قد تكون بديلاً عن كرامة الإنسان وأمنه واستقراره؟! إنّ كلّ ما يمكن أن يقدّم من حطام الدّنيا ثمناً لأعوام البؤس والقهر والتّشرّد والحرمان من الأهل والأبناء والأمن والحرّية لا يساوي شيئاً مهما عظم!!
ومع ذلك، فهذا لا يعني أن يعيشوا في معاناة أخرى وحرمان جديد، وكثير منهم قد فاته حتى مدّة السعي من أجل الكسب الحلال (وتكوين النفس)، فهل من العدل أن يترك ليواجه مصيره، أو يبدأ حياته من جديد، وشمس حياته آخذة في الأفول؟!! أليس من حقّ المظلومين الإنصاف؟ أليس من حقّهم أن يُمتّعوا بحاضرهم ومستقبلهم لينسوا فجائع الماضي ومنغّصاته وآلامه؟! هل إذا خرج السجين المظلوم محطّماً، وقد أفنى زهرة عمره خلف القضبان، هل عليه أن يبدأ سعيه في الحياة من جديد بلا عون ولا مساندة أو تشجيع يأخذ بيده ويشدّ من أزره؟!!
لكن من ناحية أخرى، هل كلّ ما يحتاجه أولئك السجناء بل الليبيون- في الوقت الحالي- هو مجرّد أموال توضع في أيديهم، أو تودع في حساباتهم؟! وأين سينفقونها؟؟ أيشترون سيارات (خردة كالتي تعجّ بها شوارعنا وأسواقنا) لتعطب في منعطفات طرقاتنا، ووهادها؟ أم تقضي بحياة الأبرياء في حوادث السير الشّنيعة؟! وهل يذهبون إلى مستشفيات تفتقر لمقومات العلاج، وإلى صيدليات لشراء أدوية منتهية الصلاحية، وبدائلها التي لا تجدي فتيلاً؟! أم يشترون عقارات وأراضٍ من مالكين مازال مشكوكاً في ملكيتهم القانونية لها، غير متأكدين أنها ليست مصادرة أو مسلوبة من أصحابها الحقيقيين ظلما وبهتاناً بشرعة الغاب التي نصّ عليها الكتاب الأخضر؟!!
لذلك كلّه، أقول إن مسألة التّعويض مسألة حقوق لا نجادل في استحقاقها ووجوبها، لكنها ككل المسائل القانونية لا تتمّ جزافاً، ولا تقدّم على سبيل المنّ والتفضل الاستعلائي بهذه الطريقة الفوضوية المقيتة والمهينة الدالة- في أحسن التّأويلات- على الجهل والتّخبّط وسوء الإدارة! والأشدّ إيلاماً ممّا ذكرت هو دلالتها على أنّ العقلية المتنفّذة في أمور بلادنا ما تزال ـ بكلّ أسف ـ عقليّة قذّافيّة إذا صحّ أن ينسب شيء من العقل لكلّ من المشبّه والمشبه به على حدّ سواء! المأساة أن استرضاء الآخرين بالمال على نحو من (التّطميع) أو (الإسكات)، أو كسب الولاء هي وسيلة رخيصة بالرّغم من ثمنها الباهظ. بل أكاد أجزم أن هذا الأمر هو الذي أفسد ذمم الناس في السابق، وبالتالي أفسد حياتهم ـ المشترك منهم في المهزلة أو المستعصم منها ـ في التحوّل باهتمامات الناس، بدلاً من السعي لبناء الدولة، إلى جني المال المجّاني ـ دون عمل مستحقّ ـ  بل دون أهليّة! والأدهى من ذلك هو فتح باب الفساد على مصراعيه ليتنافس الناس على جمع المال بطريقة سهلة وسريعة، بدلاً من التنافس الشريف في ميدان العمل والبناء الإيجابي!
فالتعويض الحقيقي لشعبنا المقهور، ولبلادنا المنكوبة.. أن تبنى مرافق حقيقية خليقة ببشر آدميين، أن تشيّد الجسور الآمنة المتينة (وليست الآيلة للسقوط).. أن تقام المؤسسات الحقيقية للدولة بشكل لائق حضاري..أن تزوّد المستشفيات بأطقم وأدوات توفر الخدمات اللائقة بالمواطن، بدلا من امتهان كرامته واستنزاف ماله وتكليفه عناء السفر إلى دول الجوار لشراء المعاملة الكريمة قبل العلاج! أن نجد مدارسنا وجامعاتنا تخرّج أجيالاً يُعتمد على كفاءتهم وشخصيتهم ووطنيتهم في خدمة بلادهم..أن تجد الأسر والأطفال الليبيون متنزهات ووسائل ترفيه آمنة وجيدة تكون متنفساً لهم، بدلا من استنشاق الروائح الكريهة ورؤية القاذورات والمناظر المحزنة!.. هذا هو التعويض الحقيقي الذي يسرّ الليبيين جميعاً ويؤمنون إذا رأوه أنّ جهودهم في الثورة وما بذلوه من تضحيات قد جاءت بثمارها وحققت أهدافها، ولم تضع هباء! وعندئذ توضع الأمور في نصابها، ويأخذ أصحاب المظالم من السجناء السياسيين وغيرهم، حقوقهم وتعويضاتهم التي ينصّ عليها القضاء دون حيف أو منّ أو امتهان!!
منى السّاحلي

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق