بقلم: حسن أحمد عمر
من أخطر الآثام التى يقع فيه الإنسان ويظنها سهلة ويسيرة ومقبولة تهميش الآخر المخالف لي فى الرأي أو الفكر أو المذهب أو العرق أو الدين لأننى بهذا التهميش أسلبه حقاً إنسانيا فى أن يدلي بدلوه فى قضايا عصره وأفكار زمانه ، بل وأعتدي على كرامته وأنتقص من إنسانيته فيغدو عدواً لى يتجنب مجلسى ويبتعد عنى كلما استطاع إلى ذلك سبيلاً حيث أصبحت أمثل له مصدرا للضيق والقلق وكأنني زنزانة يوضع فيها أو سجان يحرمه من حقوقه الإنسانية ، فكيف أرضى لنفسى أن أتحول إلى شخص منفر ذى أسلوب مرفوض فى تحقير المخالف وتهميشه والتضييق عليه فى آرائه ؟؟.
فالمختلفون معي فكرياً أحترمهم كنفسي وأؤمن بهم وبحريتهم الفكرية ورأيهم المخالف لرأيي طالما طرحوه باحترام وشرحوه بأدب وبينوه باستنارة، وألقوا عليه أضواء علمهم وأنوار فكرهم وسناء عقلهم ولم يتناولوني بالتجريح والإهانة والتحقير والاستهانة والزج بي في متاهات من تهم التكفير والتغريب والعمالة وغيرها من تهم العصر الجاهزة والتفصيل التى يعدها ويخرجها ويستخدمها حديثو العهد ---باستخدام العقل ---كسلاح ضد كل من يخالفهم الرأي أو الفكر أو المذهب ، بل ومستعد للدفاع بكل ما أملك من قوة –ولله القوة جميعا- فى سبيل الدفاع عن ندّى - بفتح النون وتشديد الدال - الذى يختلف معى فى الرأى طالما تميز بما أنف ذكره من نعمة النور الفكرى والأدب الحوارى فى توصيل رأيه وطالما خاصم الديكتاتورية الفكرية التى تريد أن تفرض فكراً معيناً إما بالحيلة فإن لم تفلح الحيلة فبالقوة والجبروت والسلطان والعدوان وهذا ما أربأ بكل كاتب محترم عنه .
لماذا أحترم من يخالفنى الرأى وأبحث عنه بالإبرة ---تعبير مصرى جميل يدل على عناء البحث عن الشيء- حتى أجده وكأننى لقيت كنزاً ؟؟ لأن من يخالفنى الرأى يجعلنى أغوص فى أعماق نفسى وأخرج منها لآليء الفكر الجميل وأحصل على آراء كانت نائمة بداخلى تنتظر من يوقظها ولن يوقظها غير من يخالفنى الرأى لأنه ينتقد كلامى ويفند آرائى ويحاول إقناعى أننى على خطأ وهو على صواب فهى معركة شريفة رائعة أجمل كثيراً من سباقات الرياضة التى يسعى كل بطل فيها لكى ينال الدرجات العلى ، فالذى يخالفنى الرأى يرى نفسه على صواب ويرانى على خطأ وأنا أراه على خطأ وأرانى على صواب ويقدم كل منا براهينه ومبرراته التى بالطبع تكون أدق وأعمق ما يصل إليه كلانا من عمق تفكير وسعة خيال ، وهذا هو سر جمال النقاش الشريف الذى يؤدى حتما إلى نتائج مرموقة ويصل بالمتحاورين إلى ما يصبو إليه كلاهما كمخلصين للمادة العلمية ولموضوع الحوار، فيتنازل المخطئ للمصيب ويعترف بسابق إخفاقه فى ذلك الموضوع وتتوطد العلاقة بينهما أكثر، وحتى لو لم يحدث ذلك الاتفاق فى الرأى والفكر أو ذاك التنازل من أحدهما للآخر بناءا عن اقتناع ،وظلا مختلفين ورحلا وهما لا يزالا متمسكين بفكريهما ، فإن ذلك لا يفسد للود قضية ويظل يربطهما حبل من نور المحبة وجمال الأدب ورقة الذوق حتى يجمعهما لقاء آخر فيعاودا نقاشاً جديداً ويستأنفا حواراً مفيداً ، فقد جمعهما أدب الكلام ولذة الاستفادة وتفرقا على ذلك فلم تنشأ بينهما عداوة ولم يكره أحدهما الآخر على فكره او رأيه أو مذهبه.
المتفقون معى فى آرائى طبعا لهم كل الحب والاحترام والتقدير ولكنهم لا يستطيعون عمل نفس الأثر وإحداث نفس الدافع نحو مزيد من البحث عن براهين ومبررات لما أراه كما يقوم بذلك المختلفون معى ، فالمتفق معى كأنه أنا شخص واحد وهو أمر لا أميل له بطبعى بل أحب الاختلاف وابحث عنه حتى تكون للحياة لذة وللنقاش معنى واثر ونتيجة ، بيد أنى لا أذكى نفسى أبدا بل الله تعالى يزكى من يشاء وهو وحده يعلم ما تخفى الصدور كما وأننى لا أعتبر نفسى مصيباً على طول الخط بل إن رأيى فى نظرى صواب يحتمل الخطأ ورأى غيرى خطأ يحتمل الصواب وأعتقد أن هذه أروع أمثلة الديمقراطية الفكرية وأجمل توضيح لاحترام الآخر المختلف معى فكرياً فكلنا فى النهاية بشر يجاهد ليعرف الحق من الباطل والصواب من الخطأ والنور من الظلام والهدى من الضلال ، وليس بيننا معصوم ولا من يوحى إليه بخبر السماء فلا مجال إذاً لتزكية النفس أو تحميلها ما هو فوق طاقتها ولا مجال لأن يجعل مفكر أو مجتهد من فكره ورأيه كتاباً مقدساً يجب أن يأتى إليه الناس مذعنين خاضعين ومصدقين كأنه وحى السماء الذى لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.
ألاختلاف بين البشر دينيا وفكريا وعقائديا هى حقيقة لا ينكرها غير غائب عن الوجود وقد قال أهل اللغة والشعر والأدب ( وبضدها تتميز الأشياء) ولقد أكد القرآن الكريم على حقيقة الاختلاف حين قال تعالى :
((وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ 118 إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لأَمْلأنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ 119))هود
مجرد شعورى أن من يناقشنى فى مسألة ما ويريد أن يتنكر لرأيي أو يهمش وجهة نظرى أو لا يأخذ فكرتى بمحمل الجد والاحترام والتثمين فإننى أنسحب من حلبة النقاش ولا أستمر أبداً لان أدب الحوار والغض من صوت المتحاورين واحترام الآخر المختلف فى أن يدلى بدلوه ويبين وجهة نظره فى الموضوع المتحاور عليه وإعطاءه وقته الكافى للتعبير عن وجهته تلك ، إن لم يتحقق ذلك فلا نقاش ولا حوار بل هو صورة أخرى للديكتاتورية الفكرية ومحاولة جديدة لإنكار الآخر وتهميشه وإقصائه وهى أمور لا يرتضيها عقل حر يقدر معنى الفكر والاجتهاد والتدبر ويزن الأمور ويضعها فى نصابها.
كيف أعرف عيوبى فأصلحها لو لم يكن هناك نقد بناء ؟ وبدون هذا النقد هل ينصلح الحال المائل ؟ وهل يستقيم المعوج ؟ وهل يتم إصلاح العيوب وتلافيها والوصول لأفضل النتائج وأكمل الأعمال بدون هذا الآخر الذى ينقد بعين فاهمة وعقل واع ولسان مهذب ؟ إن المرء—من المروءة—مرآة أخيه حين تصدق النوايا وتخلص القلوب لله تعالى وللناس أما أصحاب النقد الهدام والشتائم والتجريح والتكفير وتوجيه التهم الجزافية والصفات العشوائية لكل مخالف لهم فى الرأى أو المذهب ، أصحاب القلوب الغلاظ والعقول المقفلة والألسنة الحداد ، فهؤلاء مرايا مشروخة بها ألف شرخ وألف كسر ولا تصلح لإظهار عيوب الإنسان بل تصلح لأن تتحول إلى آلة حادة تقتله وتدمره وتدفنه حيا لأنه مختلف معهم.
فعلينا فى مجتمعاتنا أن ندرّس ثقافة الاختلاف فى الرأى والفكر والدين والمعتقد ونجعلها مادة ذات أولوية فى كل مراحل التعليم ويقوم على وضعها أناس يحترمون الإنسان أيا كان لأنه إنسان ولا يتعاملون معه بشروط مسبقة ، وأن ندرّس كيف نحترم الآخر المختلف ونقدره ولا نحقره ونثمنه ولا ندفنه ، ولا نجعل من أنفسنا آلهة تسعى بين البشر فكلنا بشر يصيب ويخطى وليس بيننا من يملك الحقيقة المطلقة التى هى ملك قيوم السماوات والأرض سبحانه وتعالى عما يصفون.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق