الاثنين، يونيو 03، 2013

محاكمة سيف الإسلام [بين القضاء الوطني والمحكمة الجنائية الدولية ومجلس الأمن].... د. عبد الرازق المرتضي

أولا: تزايد إصرار المحكمة على التسليم مع تعثر وتأخر إجراءات المحاكمة في ليبيا
أصدرت المحكمة الجنائية الدولية في لاهاي يوم أمس، الجمعة  31 مايو 2013 حكما يطالب ليبيا بتسليم سيف الإسلام القذافي إلى المحكمة  لمحاكمته. وأنتهت المحكمة إلى أن ليبيا لم  تثبت أنها تحقق في نفس القضية المنظورة أمام المحكمة  وأنها قادرة فعليا على إجراء التحقيق.
ومن جانبها ذهبت منظمة هيومن رايتس ووتش في نفس الإتجاه وطالبت ليبيا بالالتزام بقرار المحكمة. وقال مدير قسم العدالة الدولية في المنظمة: " قامت ليبيا حتى الآن بالعمل وفق إجراءات المحكمة الجنائية الدولية كما اشترط مجلس الأمن حينما أحال الأحداث التي وقعت بها إلى المحكمة. إن السلطات الليبية حين تحترم الإجراءات القضائية للمحكمة الجنائية الدولية فهي تقدم بادرة هامة دالة على التزامها بسيادة القانون. "   
وقبل ذلك تكررت مراسلات وبيانات المحكمة الجنائية الدولية التي تطالب ليبيا بأن تراعي الخطـوات التي أعقبت اعتقـال سيف الإسلام أحكام النظام الأساسي للمحكمة " نظام روما"، والعمل وبشكل فوري على تنفيذ الالـتزام بتسليمه لمحاكمته، وأن ليبيا ملزمة قانونـا بالتعاون التام مع المحكمة، بما في ذلك التـعاون في مجال تسليم المشتبه فيهم، وذلك وفقا لقرار مـجلس الأمن رقم 1970/2011 ، وأن طلبات ليبيا المتعلقة بمنح  مهل لتنفيذ هذا الإلتزام لا يعفيها من قرارات المحكمة.
ومن جانبها تواصل  ليبيا التمسك بإختصاص قضائها الوطني، بالإستناد على أنها ليست طرفا في نظام روما، وبالتالي غير ملزمة بأحكامه وإن كانت ملتزمة بتوفير محاكمة عادلة.  وعليه ترفض تسليم سيف الإسلام  وتصر على محاكمته في ليبيا، وتتمسك برفض قبول الدعوى أمام المحكمة، وتكرر الإعلان عن إتخاذ ترتيبات عملية للبدء في المحاكمة وفقا للقانون الليبي وضمانات الدفاع المقررة فيه.
  
ثانيا: إستناد المحكمة الجنائية الدولية على قرار مجلس الأمن رقم 1970 (2011)
نذكر بأنه في 27 يونيو 2011، وبعد فتح التحقيق في 3 مارس 2011، أصدرت الدائرة التمهيدية الأولى للمحكمة الجنائية الدولية  ثلاثة أوامر بالقبض شملت سيف الإسلام القذافي وكذلك معمر القذافي، وعبد الله السنوسي بتهمة ارتكاب جرائم ضد الإنسانية (القتل والإضطهاد في الفترة من 15 حتى  28 فبراير  2011، على الأقل).   وتم ذلك عملا بقرار لمجلس الأمن صدر بالإجماع في 26 فبراير 2011 تحت رقم 1970 (2011)، وقضى بإحالة الوضع في ليبيا منذ 15 فبراير 2011 "تاريخ اندلاع ثورة 17 فبراير"  إلى المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية.
 وفي 22 نوفمبر2011، أنهت الدائرة التمهيدية رسميا القضية  ضد المتهم الأول بسبب وفاته بتاريخ 20 أكتوبر 2011. وفي 19 نوفمبر 2011 تم إعتقال سيف الإسلام في ليبيا التي أعلنت منذئذ وحتى اليوم تمسكها بإختصاص قضائها في التحقيق معه ومقاضاته.  وفي17 مارس  2011، اعتقلت موريتانيا آخر المتهمين وتم تسليمه الي السلطات الليبية و مازال قيد اجراءات التحقيق و المحاكمة.

ثالثا: محاكمة سيف الإسلام أمام القضاء الوطني لا تتعارض مع قرار مجلس الأمن
جاء في  قرار مجلس الأمن رقم 1970 (2011) تأكيد المجلس على "إلتزامه القوي بسيادة ليبيا"، ولا شك أن إقامة العدل هي من أبرز مظاهر ممارسة هذه السيادة. ومن المتفق عليه كقاعدة عامة أن القاضي الوطني هو القاضي الطبيعي لوجود المتهم والوقائع والأدلة في إقليم دولته، وأن الأولوية للدول التي يحمل المتهم جنسيتها والتي يقع الفعل المُجَرَّم فوق إقليمها.
 وأعربت السلطات الليبية منذ البداية عن تمسكها بممارسة سيادتها وولايتها القضائية وعدم التخلي عنها والمضي في التحقيق ومقاضاة سيف الإسلام، ولهذا الموقف أسانيده القانونية في وثائق دولية عديدة أخرى منها نظام روما لسنة 2002 الذي أنشئت بموجبة المحكمة الجنائية الدولية. وتعد المحكمة الجنائية الدولية، طبقا لأحكام هذا النظام، محكمة المآل الأخير، فهي تكمل الأجهزة القضائية الوطنية، وليس لها القيام بدورها القضائي ما لم تبد هذه الأجهزة عدم رغبتها أو لم تكن قادرة على تناول تلك القضايا. وذكرت ديباجة النظام المذكور بأن من واجب كل دولة أن تمارس ولايتها القضائية الجنائية على أولئك المسئولين عن ارتكاب جرائم دولية، وأكدت على أن المحكمة ستكون مكملة للولايات القضائية الجنائية الوطنية. وقضت المادة (1) صراحة بأن " تكون المحكمة مكملة للولايات القضائية الجنائية الوطنية ". وقضت المادة 80 من نفس النظام تحت عنوان عدم المساس بالتطبيق الوطني للعقوبات والقوانين الوطنية بأنه:  " ليس في هذا النظام الأساسي ما يمنع الدول من توقيع العقوبات المنصوص عليها في قوانينها الوطنية أو يحول دون تطبيق قوانين الدول التي لا تنص على العقوبات المحددة في هذا الباب ".
 هذا ما جاء في قرار مجلس الأمن وفي نظام روما. ويزيد من تعزيز اختصاص ليبيا بمقاضاة سيف الإسلام، وبالإضافة لكونها ليست طرفا في النظام المذكور، ، كونه معتقل في أراضيها، ويحمل جنسيتها، وهي محل وقوع الجرائم المتهم بارتكابها، وتلكم  أبرز معايير تحديد الإختصاص القضائي المعمول بها دوليا.

رابعا: السعي لتعزيز التعاون مع المحكمة الجنائية الدولية
لا تعني ولاية القضاء الوطني إستبعاد  التعاون مع المحكمة الجنائية الدولية، وذلك ما رحبت به ليبيا وسعت إليه خلال عدة لقاءات مع مكتب المدعي العام، وما يجب أن تواصل العمل من أجله بإجراءات عملية ملموسة. ولا يستند هذا التعاون على نظام روما، إذ ليست ليبيا طرفا فيه وليست ملزمة طبقا لأحكامه بالتعاون مع المحكمة مالم تقرر ذلك بمحض إرادتها. إن هذا التعاون تفرضه أحكام قرار مجلس الأمن التي قضت بتعاون الدول و بأن "تتعاون السلطات الليبية تعاونا كاملا مع المحكمة ومع المدعي العام". ومن البديهي أن التعاون، كعملية تهدف إلى تحقيق منفعة متبادلة، لا ينطوي على التزام بتسليم المتهمين للمحكمة أو المساس بالولاية القضائية الوطنية.

 خامسا: الممارسة الفعلية للولاية القضائية الوطنية
لايكفي الدفع بعدم عضوية ليبيا في نظام روما الأساسي المتعلق بالمحكمة الجنائية الدولية أو غير ذلك من الاسانيد الداعمة للولاية القضائية الوطنية، بل يتعين مراعاة إطار ممارسة هذه الولاية وإتخاذ خطوات عملية مقنعة.

1- الإطار الدولي لممارسة الولاية القضائية الوطنية
إن ممارسة الولاية القضائية الوطنية لايمكن أن تتجاهل إطارها الدولي كإطار حددته الإجراءات ذات العلاقة التي اتخذها مجلس الأمن والمحكمة الجنائية الدولية. وما زال الوضع في ليبيا مدرجا في جدول أعمال المجلس وما زال هذا المجلس يتابع ما يتخذ من إجراءات من خلال التقارير النصف سنوية التي يقدمها المدعي العام للمحكمة المذكورة عملا بالقرار رقم 1970(2011)، وآخرها التقرير المقرر تقديمه مع منتصف الشهر القادم. كما أن الأمر يتعلق بجرائم دولية، وذلك ما برر صدور أوامر القبض من المحكمة الجنائية الدولية، و ما يتوجب مراعاته عند تطبيق ولاية القضاء الوطني. فهي تندرج ضمن الجرائم الأشد خطورة التي تثير قلق المجتمع الدولي بأسره، وكان إنشاء المحكمة الجنائية الدولية كأول هيئة قضائية عالمية، وكما جاء في ديباجة نظام روما، بهدف الحيلولة دون أن تمر هذه الجرائم دون مساءلة ووضع حد لإفلات مرتكبيها من العقاب وضمان مقاضاتهم على نحو فعال.

2- حاجة لخطوات عملية مقنعة لممارسة الولاية القضائية الوطنية
لايكفي أن تكون لليبيا ولاية التحقيق والمقاضاة في الدعوى، بل يجب أن تكون حقاً راغبة في الإضطلاع بالتحقيق أو المقاضاة و قادرة على ذلك، وأن تقنع المجتمع الدولي، ولاسيما المحكمة ومجلس الأمن برغبة وقدرة ليبية على إجراء التحقيق والمقاضاة بما يتماشى مع الأصول المقررة في القانون الدولي بشأن مثل هذه الجرائم، وأن تتسم بالفعالية وتحقق الغاية الأساسية لقرار مجلس الأمن رقم 1970/2011، أي "ضرورة محاسبة المسؤولين عن الهجمات الموجهة ضد المدنيين".

أ - الحاجة لإثبات رغبة ليبية جدية في الاضطلاع بالتحقيق أو المقاضاة
ويكون ذلك من خلال:
  • إثبات الإضطلاع بالإجراءات المتعلقة بالمسئولية الجنائية عن الجرائم الداخلة في اختصاص المحكمة الجنائية الدولية.
  • الإبتعاد عن تأخير الإجراءات أوتأخير تقديم الشخص المعني للعدالة دون مبرر.
  • الحرص على مباشرة الإجراءات بشكل مستقل أو نزيه يتفق مع نية تقديم الشخص المعني للعدالة.
  • إثبات الوجود الفاعل لمؤسسات القضاء الوطني وعدم انهيارها بشكل كلي أو جوهري.

 ب - الحاجة لإثبات قدرة ليبية على الاضطلاع بالتحقيق أو المقاضاة
 ويكون ذلك من خلال إثبات قدرة مؤسسات القضاء الوطني على إحضار المتهم و الحصول على الأدلة والشهادات الضرورية والإضطلاع بإجراءاتها "تراجع المادة 17 من نظام روما:المسائل المتعلقة بالمقبولية".

ومع وضوح الرغبة في قيام السلطات الليبية بالتحقيق والمقاضاة كمطلب تدعمه أسانيد قانونية متينة سبق ذكرها ويحظى بإجماع وطني شامل،  ما زالت هناك حاجة لقيام جميع المعنيين بجهود أكثر فعالية لإثبات قدرة قضاء ليبيا الجديدة على هذا التحقيق والمقاضاة ، جهود عملية ملموسة تراعي المصلحة الوطنية العليا وتتجاوز التأكيدات النظرية على إختصاص القضاء الوطني بمحاكمة سيف.

 ‏ د. عبد الرازق المرتضي

 عضو لجنة القانون الدولي/‏ جنيف
1 يونيو 2013



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق