الأحد، فبراير 03، 2013

ليبيا: هل أصبحت الكرة خارج الملعب؟..... د. عبدالحميد النعمي

يبدو أن الجميع يتمتع بمنظر المدينة وهي تحترق، ألا يكفينا 40 سنة من التيه والهذيان؟ إننا في ليبيا نقترب كل يوم من ساعة الحقيقة التي على ما يبدو لم يعد لها أحد شيئاً عدا معاول الهدم للقضاء على ما تبقى من كياننا السياسي الليبي.
أولاً، أين نحن من 17/2؟ لقد كنا صادقين مع ليبيا مرة واحدة عندما أطلقنا صرخة 17 فبراير وخضنا معركة التحرير. لكننا نافقناها في كل ما تلى ذلك من سجالات:
1- نافقناها عندما شكلنا دوائر السلطة الجديدة في شقيها التشريعي والتنفيذي من شخصيات تنتمي في معظمها إلى المعارضة في الخارج والكثير منهم بعيدون كل البعد عن قضايا الوطن ومشكلاته الحقيقية وهنا كانت القفزة الأولى في المجهول.
2- ونافقناها مرة أخرى عندما شكلنا المكتب التنفيذي من شخصيات محسوبة على النظام السابق ومتورطة في مشروعات ساهمت في إطالة عمر النظام من خلال تطبيع علاقاته مع دوائر النفوذ العالمية وإيضا ًمن خلال تسويق إنفتاحه على شرائح عريضة في المجتمع الليبي من خلال جملة من الوعود الزائفة و البراقة والتي ساهمت في تخدير مجموعات كبيرة من الشباب ترقباً للفردوس الموعود ضمن برنامج ليبيا الغد.





3- ونافقناها مرة ثالثة عندما شكلنا الحكومة الإنتقالية برئاسة الدكتور الكيب من شخصيات معظمها إن لم نقل جميعها تحمل جنسيات أجنبية والأغلب أمريكية. لقد تعاملنا مع موضوع إزدواجية الجنسية بكل سذاجة وكل إستهتار (وهذه هي العبارات التي يمليها علي الطرح العلمي الموضوعي لكي لا أسمح لنفسي بإستعمال عبارات أخرى )، فهل يعقل أننا في هذه المرحلة من بناء الدولة والتي أصبحت فيها ليبيا محط أطماع جحافل الطامعين ونقطة إلتقاء مخططات وإستراتيجيات الدول الكبرى والصغرى والقوى الدولية والإقليمية على السواء، أن نسمح بتقلد حاملي الجنسيات المزدوجة الوظائف السيادية للدولة؟ هل نحن كليبيين طيبين وبسطاء إلى هذا الحد؟ أم أننا شعب بإختصار يجهل ألفباء السياسة؟
حتى على مستوى الفئات التي تتلمذت على يد الطاغية وتفقهت من خلال فقهه الثوري المزيف الذي صمم لكي لا يؤهلنا إلى شيء سوى أن نكون طيفاً عرضياً في المشهد السياسي دون أن نكون قادرين على المشاركة في صنعه بأي شكل من الأشكال. فكانت النتيجة إخراج مجرمين من السجون و تكليفهم وزراء، تكليف سفراء أطفال حتى بالنظر إلى عامل السن ميزتهم الوحيدة أنهم ينتمون الى الشلة الحاكمة التي آلت إليها مقاليد الأمور.
سنة من الحكم لم نرى لها أي أثر ملموس على الأرض. مليارات من العائدات لم ترصد حتى ضمن بنود الميزانية، ومليارات أخرى رصدت في الميزانية وصرفت في مجالات الرفاهية والكماليات متناسين مدناً كاملة مدمرة تنتظر إعادة الإعمار... مدارس تحت أسقف من الصفيح... تلاميذ يجلسون على الأرض في قاعات الدرس... جامعات بدون مقاعد ولا أبواب ولا نوافذ وبها الآلاف من الطلبة والموظفين بدون دورات مياه. ولعله حان اليوم موعد طرح هذا السؤال.. من سيدفع ثمن هذا العبث؟
4- وخذلنا ليبيا مرة رابعه عندما نظمنا إنتخابات المؤتمر الوطنى دون الإلتزام بأساسيات العمل الديمقراطي فها هي لجنة إعداد قانون الدوائر الإنتخابية تشكل برئاسة دكتور متخصص في الدوائر الكهربائية من كلية الهندسة، والحملة الإنتخابية تدار من قبل بعض الكيانات السياسية التي قامت بإنفاق مبالغ خيالية لا تتناسب مع حجم الكيان وحداثة تشكيله. لقد تغاضينا عن العديد من الأخطاء التي إتضح اليوم للجميع أنها كانت قاتلة لتجربتنا الديمقراطية الوليدة.
5- وخذلنا ليبيا خامساً عندما شكلنا حكومة مؤقتة برئاسة الدكتور زيدان بدون برنامج محدد، لقد حضر الرجل إلى قاعة المؤتمر صبيحة تكليفه بتشكيل الحكومة ليقول أنه لم يتمكن من إعداد برنامج مفصل لحكومته لضيق الوقت ولكنه وعد بتقديمه بعد أيام. هذه مظاهر للعمل السياسي هي أغرب من الخيال. فلم نسمع في تاريخ البرلمانات والمجالس التشريعية أن منحت الثقة لحكومة بدون برناج. فالقاعدة الطبيعية أن تمنح الثقة لبرنامج العمل الحكومي و ليس للأشخاص أو تمنح لأشخاص بناء على برنامج تم تقديمه و مناقشته و إعتماده.
والآن وقد آلت الأمور إلى ما آلت إليه وقد أصبحنا أمام إستحقاقات تاريخية. هل سنقف لنتباكى على ضياع فرصة تاريخية وهبتها لنا العناية الإلهية ولم نكن في المستوى المطلوب لإستثمارها في بناء دولتنا المدنية الديمقراطية التي تكفل العيش الكريم لابناء الشعب الليبي كافةً أسوة بالشعوب الأخرى على هذه البسيطة؟ أم أنه لدينا ما يمكن عمله وأنه لازال بإمكاننا توجيه الأمور في الإتجاه الذي يحقق أهداف الثورة و يضمن عدم إنتكاسة الأوضاع نحو الأسوأ؟ هل أصبحت بلادنا أشبه ما تكون إلى نموذج الدولة الفاشلة؟ نحن اليوم أمام حملة من التهديدات التي باتت تعرض الكيان الليبي برمته للخطر.
فماذا تحقق مثلاً على صعيد تعزيز الوحدة الوطنية من خلال طرح بدائل للنظام الإداري المركزي الشمولي المنهار والقضاء على التهميش و تقريب الخدمات من المواطن وإعطاء المناطق كل نصيبه من الثروة الوطنية؟ كيف تم التعامل مع مطالب الفيدرالية؟ التي لا هي غريبة ولا هي مستحيلة بل كان بالإمكان معالجتها بتروي وحكمة بحيث تراعي مصالح جميع الأطراف ولكن أنصار الفيدرالية لم يجدوا أمامهم محاور جاد من جانب المؤتمر والحكومة.
ماذا تحقق على صعيد بناء أجهزة الدولة الأمنية من شرطة وجيش وطنى؟ ولماذا تؤجل هذه الإستحقاقات الحيوية من حكومة إلى حكومة بالرغم من إنها تمثل حجر الزاوية في بناء الدولة الجديدة؟ ومن هي القوى التي تعمل ضد قيامها؟
ماذا تحقق على صعيد جسر الهوة بين الثوار الفاعلين على الأرض ومن يتصدر المشهد السياسي ويدعى إمتلاك الشرعية للتعبير عن ثورة 17 فبراير؟
وماذا تحقق على صعيد رفع مستوى المعيشة خاصة بالنسبة للفئات المعدمة؟ وإستعادة الأموال الليبية في الخارج؟ والمصالحة الوطنية وتفعيل العدالة الإنتقالية؟ ومحاربة الفساد؟
ثانيا، من الذي يمكنه ان يفعل شيئا في الإتجاه الصحيح، المؤتمر، الحكومة، الثوار، الكيانات السياسية، النخب والمجتمع المدني، أم الاطراف الدولية.
1- المؤتمر
لا أحد ينكر الصعوبات التي واجهت المؤتمر في بداية عمله من غياب لوائح و نظم عمل و تقاليد برلمانية يمكن الإسترشاد بها. ولكن للأسف فإن أعضاء المؤتمر من الرئاسة إلى الكتل الحزبية إلى الأعضاء إستهوتهم بهرجة العمل السياسي ومظاهره الإحتفالية والبروتكولية وصرفهم ذلك عن جوهر المهمة الموكلة إليهم فمهمته الأساسية في الواقع هي مهمة تأسيسية تتمثل في خلق مؤسسات الدولة الجديدة وتمهيد الطريق أمامها للإنطلاق. ولكن هذا ما لم يحدث، لقد أضاع المؤتمر معظم وقته في مناقشة قضايا إما جانبية أو يمكن أن توكل إلى هيئات أخرى تنفيذية. وهكذا استنفذ المؤتمر الجانب الأكبر من المدة المخصصة له دون تحقيق إنجازات تذكر، خاصةً في المجالات التي أضحت تشكل تهديدا لمستقبل الكيان الليبي. هذا بالاضافة إلى أنه يؤخذ على المؤتمر مبالغته في الإهتمام بالمصالح الخاصة لأعضاءه مثل المكافئات المجزية التي أقرت لأعضاء وبدل السيارة وبدل السكن بحيث أصبحت عضوية المؤتمر أقرب إلى الصفقة التجارية التي يجب إستثمارها قدر الإمكان. في حين لا زالت الكثير من العائلات الليبية تسكن أكواخ الصفيح ولا زال الكثير من الليبين لا يملك قوت يومه. إذاً يمكن القول بأن المؤتمر أثبت عملياً أنه ليس في مستوى الأخطار الكبرى التي تواجهنا ولا يمكن التعويل عليه في إبتكار أية صيغه أو وصفه ناجعه للعبور بنا إلى شاطيء الأمان.
2- الحكومة
هل بإمكان حكومة السيد زيدان تقديم برنامج عملي على مستوى الأخطار المحدقة؟
الإجابة هنا أيضا بالنفي. فحكومة كهذه تشكلت على عجل من عناصر بعضها أثبت فشله في الحكومة السابقة وبعضهم عاش في الخارج معظم حياته وبعضهم الأخر إشتهر بقيامه بأعمال وضيعه مع أسرة الطاغية فهل يرجى من هكذا لملمة النهوض بموقف نبيل مشـــرف على مستوى ما أريق من دماء قربانا لهذه الحرية المنشودة؟
يبدو أن العمل الحكومي عند بعض أقطاب هذه الحكومة لا يعدو كونه تنفيساً عن بعض العقد المكبوتة وتعويضاً عن الرغبات التي لم تتحقق من خلال عملهم ضمن الأجهزة الدبلوماسية للنظام السابق ولم يشبعوا رغباتهم في السفريات والتبختر على البساط الأحمر في المطارات وفي قصور الضيافة، حتى يتفرغوا لهموم المواطن الليبي الذي ينتظر منهم الغوث. لذلك فإن الحكومة منذ بداياتها لا تتناسب مع طبيعة هذه المرحلة وهي الحاضر الغائب أو لنقل " الأطرش في الزفة ".
3- الثوار
هل يمكن أن نعول على الثوار في إنقاذ مشروع 17 فباير؟ يبدوا أن الثوار لازالوا يمثلون الورقة الوحيدة التي بالإمكان توظيفها في إنقاذ ليبيا من الفتن وإستكمال مسيرة البناء التي بدأتها وهنا لا أريد الوقوف عند المصطلحات الدخيلة مثل أشباه والثوار المندسين والجماعات المسلحة، هذه كلها في نظري لاتعدو كونها ظواهر طفيلية تحيط بالكيان الأكبر وهو فئة الثوار المعروفة والتي لها مجالس وإتحادات وقيادات ميدانية يعرفون بعضهم وتكونت بينهم نوع من الألفة والثقة ووحدة الهدف والمصير، ما يدعو إلى مزيد من التواصل والتعاون لإستكمال مشروع الثورة.
فالثوار اليوم جميعهم مستهدفون من القوى المناهضة لمشروع 17 فبراير والتي تحاول خلق فتنة تؤدي إلى ظهور حركة مضادة للثورة. هذه القوى تدعو اليوم بقوة إلى تجريد الثوار من السلاح وحل الكتائب المسلحة وعزل الثوار عن السياسة وعن الدولة  بل و حتى محاكمة الثوار. إنهم يطالبون بعزل مضاد يستهدف الثوار يدعمهم في ذلك إستمرار وجود القوى المضادة في مفاصل الدولة الرئيسة وإمتلاكهم لمقاليد القرار المالي والإداري في الدولة الليبية. وبالتالي لم يتبقى لإعلان الجماهيرية الثانية سوى تجريد الثوار من سلاحهم و تحييدهم من دائرة القرار الامنى. وهكذا نصبح وكأنك " يابوزيد ما غزيت" وراح دم الشهداء هباء منثوراً.
إذاً الأمل الوحيد في الخروج من هذه المحنة يتمثل في بقاء الثوار وتماسكهم كفئة إجتماعية وسياسية صاحبة المصلحة الحقيقية في الثورة وتوحيد صفوفها و تنسيق مواقفها وعدم الإنخداع بأي مظهر من مظاهر السلطة الزائفة في هذه المرحلة حتى نطمئن على مصير هذه الثورة وحمايتها وتحصينها من كل المخاطر.
4- الكيانات السياسية
بالرغم مما يثار من أن بعض الكيانات يعمل صراحة ضد مشروع 17 فبراير إلا أنني لا أفضل الخوض في هذا الجدل و أكتفي بالقول بأنه مهما روجت من مقولات وأفكار من خلال الضغط الإعلامي المكثف، ومهما عرض من شخصيات مشبوهة ومهما بذل من جهد لصناعة قادة وزعماء من خلال كم هائل من الأكاذيب والأساطير فإن الشعوب في مطلع الألفية الثالثة لن تعدم الوسيلة لتبيان الحقيقة وعندها سيكشف الغطاء عن كل ما هو مزيف ودخيل.
وها نحن نرى محدودية تأثيرها في الشارع الليبي بالرغم من قدرتها الكبيرة على الإمساك بخيوط اللعبة داخل المؤتمر ولكن نحن وصلنا إلى مرحلة لا المؤتمر ولا الحكومة ولا الكيانات قادرون على حسم الأمور. و يبدو أن خارطة الكيانات السياسية في ليبيا مقبلة على إعادة هيكلة في المرحلة القادمة على ضوء تفاعل هذه الكيانات مع فواعل الحياة السياسية في ليبيا.
5- النخب والمجتمع المدني
تعتبرالنخب السياسية ضحية لفقر الثقافة السياسية وضحالتها نتيجة سياسة التجهيل الممنهجة طوال الأربعة عقود السابقة. وبالرغم من المحاولات الجادة على مستوى نشر ثقافة الديمقراطية وتوضيح الكثير من المفاهيم السياسية، لا زالت غير قادرة على الوصول إلى شرائح عريضة من المجتمع والتاثير بشكل إيجابي في اتجاه بناء الدولة.
6- الأطراف الدولية
يتحدث الكثيرون عن نفوذ كل من فرنسا وأمريكا التي ساعدت الليبين في التخلص من نظام الطاغية، وعن نفوذ قطر وإهتمامات مصر وغيرها، ويجب أن نذكر أن العامل الخارجي كان له على الدوام أثر حاسم على مصير ليبيا.
ففي الخمسينيات من القرن الماضي أصبح إستقلال ليبيا ممكناً بسبب تفاهمات بين الدول الكبرى تضمن لكل منها حقوقها في المنطقة وتحول دون إستئثار أي منها بالإمتيازات التي يسمح بها وجودها في ليبيا. ويعلم الجميع أن أهمية ليبيا بالنسبة للعالم وخاصةً أوروبا ليست بأهمية الصومال أو مالي، فليبيا مصدر رئيس للنفط لأوروبا ومعبر رئيسي للهجرة الغير شرعية التي تهدد أوروبا. وبالتالي فإن أوروبا لن تسمح بأي إختلال للأمن والإستقرار في ليبيا بما يهدد مصالحها وأمنها.
ولذلك فإن الفصائل التي تطرح مطالبًا مبالغ فيها وتتبنى وجهات نظر لا تنسجم مع مطالب الغالبية الساحقة للشعب الليبي يجب أن تفهم أنها تمهد الطريق لتدخل أجنبي لا أكثر ولا أقل من حيث تدري أو لا تدري وعندها تكون قدمت خدمة جليلة للقوى العالمية التي تتحين الفرصة للحصول على موطيء قدم على الأرض الليبية، ووضع يدها على ثروات هذه البلاد و إستغلالها لصالحها.
د. عبدالحميد النعمي

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق