الأربعاء، فبراير 12، 2014

عن الحرية والتحرر..... د. فوزية بريون

لا يخفى على المراقب للمشهد الليبي والمنغمس فيه أن المجتمع – نخبا وأفراد – يعاني مجموعة من الأزمات المعقدة المتشابكة؛ المتصلة والمتقاطعة، في المفاهيم والتصورات، والقيم والسلوكيات، وهي جميعا ناتجة عن الأزمة الأولى الكبرى، ألا وهي عقود الإستبداد بكل أمراضها وأوصابها، إضافة إلى زلزلة الثورة والحرب، وويلات الإقتتال والمواجهة، ومشاهد الموت وفداحة التضحيات؛ ثم ما ألحق ذلك من إضطراب في المشاعر والإدراكات، وفي السلوك والإستجابات، حتى صار واضحا أنه قد أصابنا بالإضافة إلى أدواء القهر والغبن والإستبداد أدواء التمرد والعنف والإحتراب.. وهي لعمري أسوأ اختلاط بين عناصر سلبية مدمرة للشخصية الوطنية على المستوى الفردي والجمعي على السواء.

ولعل المُعامل الذي يشحن كل تلك العناصر ويوجه تفاعلها إنما هو "الحرية".. هذه القيمة "الجديدة" التي بدأنا نتعرف عليها ونمارسها كما لم يتمكن من ذلك أحد من آبائنامنقبل، والتي استيقظنا ذات يوم فوجدناها تملأ رئتينا وتسري في كياننا سريان العدوى، بدون أن نتهيأ لها أو نعي تبعاتها أو نتدرج في مدارجها. وهو ما أحدث في حياتنا خلطا وتشويشا وفوضى، على المستوى السياسي والإقتصادي والثقافي، بل والتربوي والأخلاقي. وقد ساعد على ذلك غياب الوعي وضحالة الثقافة وتمكن حزمة من القيم والمفاهيم والشعارات المنحرفة، التي ظل الإنسان الليبي يلقنها لعقود، من أن تكون جزءا من فكره وسلوكه بدرجات متفاوتة بين الناس.
وإذا كانت الحرية هي القدرة على الفعل ورد الفعل عن وعي وإدراك وبإرادة ذاتية لا إكراه عليها، فإن مجال السياسة يكون غالبا المجال الأول الذي تمارس فيه هذه الحرية، فالسياسة والحرية صنوان متلازمان كما يرى منتسكيو، الفيلسوف الذي فند فكرة أن الشعوب الديمقراطية هي التي تقوم بكل ما تريد القيام به، موضحا أنها إنما تقوم بما يجب أن تريد القيام به.. أي بما هو قانوني. وهي في المقابل غير مجبرة على القيام بالأفعال التي يحظرها القانون.
ولكن، من جهة أخرى، فانه لو اتفقنا على أن طاعة القانون تحقق الحرية لكانت الشعوب الواقعة تحت سطوة الإستبداد حرة.. وهذا مناف للمنطق والواقع. ولذلك فإن جان جاك روسو يرى أن حل هذه الإشكالية القانونية والأخلاقية يكون بجعل الإنسان مصدرا لذلك القانون أو متبنيا له، بحيث تكون طاعته له نابعة من كون القانون ممثلا لإرادته. وعليه فقد نص في "العقد الإجتماعي" على أن ضمان حرية المواطن ليست بتحريره من قيود القانون، وإنما بجعله واضعا ومسنا له، بحيث يراعي مصالحه المشتركه مع الآخرين، معترفا بوجودهم وحقوقهم، مدركا أن حريته تنتهي حيث تبدأ حرياتهم.
وعلى هذا الأساس فإن الحرية ليست انفلاتا من القوانين والأحكام والأعراف، بل هي رهينة لها ومقيدة بها، وهو ما ينفي الحرية المطلقة ويكرس نسبيتها باعتبارها تدور في إطار كل مالا يضر بالآخرين ولا ينال من حرياتهم ولا يعتدي على كرامتهم .. بل إنها مرهونة بالأسس التي يرتكز عليها المجتمع وتحفظ منظومته القيمية وكيانه المعنوي، والمضمنة في القوانين التي يتفق عليها أفراد المجتمع لتحقيق المنفعة العامة.
تبقى هذه المفاهيم نظرية محلقة وإجرائية باردة، لا يمكنها أن تنظم ممارسة الحرية أثناء التعاطي مع الشأن العام ما لم تقم النخب بدورها في تفهم ثقافة الحرية وإدراك أبعادها وتبعاتها، ومن ثمّ تجسيد قيمها ونشر الوعي بها وتطبيق روحها في القول والفعل، وفي الكتابة والنقاش، وفي العمل العلمي المخطط على الإرتقاء بالحوار المشوش المنتشر في جميع مناحي الحياة، والذي يشارك فيه معظم الناس على اختلاف مستوياتهم من الإدراك والوعي .. حتى صار عندنا فجأة مئات الآلاف من السياسيين ومثلهم من المنظرين ومثلهم من الفقهاء ومن الخبراء والمحللين .. وصار المشهد يعج بالأفكار والآراء والدعوات والمنظمات مما أدى ويؤدي إلى تضارب الجهود، وارتباك الآداء، واختلاط الرؤى.
صحيح أن المشهد في تفاصيله هو أكثر تعقيدا وتأزما، وأن سؤ فهم الحرية أو الإنحراف بممارستها إنما هو عنصر من بين عناصر كثيرة تشكل هذا المشهد وتؤثر فيه.. وصحيح أن الثورة لن تكون ثورة حقيقية إلا إذا نجحت في تغيير الإنسان والإرتقاء بفكره وعقله ووجدانه، وأننا في حاجة إلى تغييرثقافي عميق يقضي على جميع المثبطات النفسية، والمعيقات الفكرية التي تحول دون أن يكون الإنسان خليفة لله قادرا على تحقيق الحق والخير والجمال على هذه الأرض.
ومع ذلك فان النخب المثقفة مدعوة الآن -أكثر من أي وقت مضى- إلى العمل على تأصيل هذه القيمة وتنظيم التعامل معها وبها في جميع المجالات التي يعايشونها.. في الثقافة والصحافة والإعلام، وفي الجامعات والمدارس والمعاهد، وفي الندوات والإجتماعات وورش العمل.. بل وفي البيت والعائلة ومكان العمل.فإن الحرية تتطلب ثقافة تحتكم للقانون وتعترف بالآخر وتقبل الإختلاف وتعمل على تحقيق السلم المجتمعي الذي ضيعناه!

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق