السبت، سبتمبر 17، 2011

ليبيا.. معطيات في المرحلة الانتقالية، تحليل ورأي

مقدمة

ها وقد حرر ثوار ليبيا الأشاوس طرابلس، وهم ألان يطهرون الوطن من بقايا ديكتاتورية القذافي المقيتة. ملحمة الستة أشهر ويزيد ستكون خالدة في وجدان الشعب الليبي البطل بما شهدته من تضحية وفداء وإقدام من اجل تحرير الوطن واسترداده كريما عزيزا.
وستكون نبراسا للشعوب المضطهدة ومعلما في درب الحرية والتحرر.
واليوم، وليبيا مقبلة على مرحلة حاسمة في تاريخها تعبر بها إلى طور الاستقرار والسلام والوئام وازدهار التشييد والتعمير، نحو بناء دولة دستورية ديمقراطية يعمها العدل والشفافية وتظللها العدالة الاجتماعية والرفاه، وتسودها قيم حقوق الإنسان والمواطنة والتعايش.
هذه المرحلة الحاسمة هي المرحلة الانتقالية التي بدأت مقدمتها بتحرير طرابلس وإتمام تطهير الوطن. المرحلة الانتقالية حرجة ومؤثرة في صياغة مستقبل الوطن وشكل الدولة المنشودة. وما ستشهده من تفاعلات وإحداث سيؤثر بالتأكيد على المستقبل، ولكنها متأثرة بفترة الانتفاضة والتحرير. وبالتالي، وكأي عملية سياسية تاريخية، فالمرحلة الانتقالية مرتبطة بما سبقها ومتصلة بما يعقبها، مما يتطلب الفحص القريب والدراسة الواعية والتحليل المتأني للوصول إلى استنتاجات وخيارات وبدائل ترشد صناعة القرار الاستراتيجي والتكتيكي. وهذا يستدعي تفكيك حالة فترة التحرير إلى عناصرها، لبيان تطورها ودورها وتأثيراتها المحتملة.
وكتوطئة تاريخية، فانتفاضة 17 فبراير بدأت سلمية لتتحول إلى مواجهات عسكرية لردع ومقاومة استخدام القذافي للقوة المفرطة لإخماد الثورة والانتقام من الثوار ومناطقهم، مما استدعى التدخل الدولي والإقليمي لحماية المدنيين. فكان خيار عسكرة الانتفاضة الوسيلة الأوحد لإتمام جهد التحرير، تحت إدارة المجلس الوطني الانتقالي والمكتب التنفيذي والمجلس العسكري وتفرعاتهم الثورية والمحلية والإدارية. ونتج عن حرب التحرير سقوط ألاف الضحايا كشهداء وجرحى ومعاقين، وتشريد ألاف الأسر في الملاجئ بالداخل والخارج، وتدمير ألاف المساكن والمحال، وتقويض البنية التحتية المتهالكة أصلا في مناطق كثيرة. إضافة، إلى توقف عجلة الاقتصاد شبه الكامل، وانعكاسه على مستوى معيشة الأهالي وقدرتهم على تلبية حاجياتهم الأساسية.
فترة التحرير شهدت وأفرزت عدة ظواهر وعناصر في المعادلة السياسية والاجتماعية. ولان العملية السياسية، عملا وتحليلا ومتابعة، عملية مركبة ومتداخلة المستويات، فتجزئتها تفكيكا مطلوبة للاقتراب من فهمها، ليعاد تجمعيها في شبكة فكرية متناسقة نسبيا، وفق رؤية وتفضيلات وحسابات تتراوح حسب منهجية المتعاطي معها. وهكذا، فتفكيك المرحلة إلى عناصرها وشواهدها سيكون في نقاط.




• الإدارة السياسية للمرحلة
المجلس الوطني الانتقالي هو الممثل الشرعي والوحيد للشعب الليبي والدولة الليبية، حسب اتفاق ووفاق مجمل الشعب الليبي، ليقود ويدير أمور الوطن والدولة أثناء فترة التحرير والمرحلة الانتقالية نحو عقد مؤتمر وطني يشرف على صياغة واعتماد دستور دائم وانتخابات. وقد حظى المجلس باعتراف ودعم كتلة دولية مهمة. وهكذا، فالاتفاق والوفاق الوطني مشروط بالإدارة الرشيدة والانتقال السلس إلى الدولة المستقرة. الفترة الماضية، أوضحت نجاح المجلس الوطني والانتقالي ومكتبه التنفيذي في إدارة صعوبات الفترة رغم دقة وصعوبة الظرف، إلا أن بعض الأصوات تصدح بالتململ وعدم الرضا: في درجة الحزم والانضباط، والمعايير في طريقة الاختيارات والتكليفات، وقلة الشفافية وخصوصا في الجوانب المالية والتكليفات. غير أن طبيعة الظروف المتغيرة والمتسارعة وصعوبة التسويات السياسية بين الأطراف تجعل مجمل أداء المجلس ومكتبه التنفيذي مرضي وايجابي، بدليل استمرار وإصرار التوافق والوفاق الوطني عليهما.
الضغوط والمتطلبات ستزداد على المجلس الانتقالي أثناء الفترة الانتقالية، بحكم تحرر الوطن، وزيادة المهام وتعدد الأطراف وتعقد المواضيع، والتي من بينها إعادة دورة الحياة في حدودها المعقولة، وتنظيم الثوار وتسليم الأسلحة ومواكبة الحراك السياسي والاجتماعي، واحتضان المناطق المحررة حديثا في العملية الانتقالية، وتطوير التواصل والمتابعة مع المجالس المحلية والجهات الإدارية، وتدشين عملية المصالحة الوطنية، والملاحقة القانونية لمجرمي الحرب، والتعاطي البناء مع الإعلام الحر...
مما يستوجب التفكير في آليات أكثر كفاءة وكفاية ومشاركة تستوعب التحديات والصعوبات والمنتظرات.



• المجالس المحلية
المناطق المحررة والثائرة شكلت مجالس محلية لإدارة الأزمة والتصدي لواجب الإغاثة وللتواصل مع المجلس الوطني الانتقالي والتنسيق مع المجالس العسكرية. المجالس المحلية لم تشكل بالانتخاب بل بالتنادي من الفاعلين في الانتفاضة، وألان مع اتساع العدد والرقعة والحجم، سيكون من أولويات المجالس المحلية أن تكون منفتحة وشفافة، حتى لا تتوالد المجالس المحلية في المنطقة الواحدة، مع ضرورة التشديد على وجود مجلس محلي لكل منطقة يراعي الجغرافيا والكثافة والمهام. وهنا، يجب التفريق بين مجالس محلية مشكلة في مناطق ثائرة ومحررة مبكرا، وأخرى انبثقت عن مناطق محررة لاحقا، لان فرز المجالس في الأخيرة جاء بمبادرات من الخارج.
عموما يجب التفكير في آلية تستوعب الطاقات والآراء المتنوعة داخل المجالس المحلية عبر توسيعها وهيكلتها إداريا إلى مهام ووظائف.

• المجالس العسكرية
تشكلت المجالس العسكرية من شباب الثورة الذين حملوا السلاح لتحرير مناطقهم والدفاع عنها وللمساهمة والمشاركة في تحرير المناطق الأخرى. لهذه المجالس العسكرية قيادات وكوادر مسلحة ساهمت بدمائها في الثورة، وهذه المساهمة ستترجم سياسيا في استحقاقات، يستوجب التفكير فيها: حصول الثوار على التقدير المناسب، ضم المجالس العسكرية في كيان مركزي كالجيش الوطني أو الحرس الوطني، وتجميع وتنظيم تسليحها، وإعادة تأهيل شباب الثورة في وظائف أو تعليم أو تدريب حرفي أو إقراض للأعمال، تشجيع قيادات وكوادر المجالس العسكرية الراغبين في العمل السياسي أو الاجتماعي بالانخراط في الأحزاب وتنظيمات المجتمع المدني.

تجربة المنطقة الشرقية، وخصوصا بعد إكمال التحرير تماما، تشير بأهمية عدم تحول المجالس العسكرية أو انشطارها إلى كتائب وسرايا، بتسميات مختلفة أو محددة الطبع أو الصفة، حتى لا تتطور إلى مليشيات.



• السرايا والكتائب
إلحاقا للنقطة السابقة، فمن المعلوم أن العديد من التشكيلات القتالية تشكلت من الثوار خارج إطار الجيش الوطني، في إطار إتمام عملية التحرير. وقيادة هذه التشكيلات- افتراضا- تشترك في عضوية القيادة العسكرية، إلا أنها مغلقة ولا تتبع إلا قادتها. بعض هذه التشكيلات مؤدلج، أي تجمعها رؤية سياسي معين. وهنا، موطن خطر مستقبلي، في حال عدم استجابتها بحل نفسها والذوبان في الجيش الوطني الذي سيعيد تشكيلها وتدريبها، ويجري- بالضرورة- نقليات تضمن الضبط والربط داخل مؤسسة الجيش الوطني المحترف. وأيضا، مخاطرة محاولة بعضها فرض أجندتها أو تحقيق مكاسب سياسية باستخدام القوة أو التلويح بها. ويزداد الخطر في حال حصول هذه التشكيلات على تمويل وتسليح خارجي.
الايجابي، أن هذه التشكيلات المسلحة تعلن أن شرط وجودها وبقائها هو بقاء خطر الديكتاتور القذافي، وبانتفاء هذا الخطر فهي مدعوة وطنيا بحل نفسها وتسليم سلاحها، أو الانضمام لمؤسسة الجيش الوطني، وفق برنامج وآلية تضعها المؤسسة السياسية بالتشارك مع الجيش، مع الاستفادة من تجارب الدول الأخرى.
• قيادات المرحلة ومراكز القوى
أفرزت مرحلة التحرير قيادات وطنية ومناطقية جاءت نتيجة المبادرة والتنادي والتزكية او حتى المغامرة والتسابق. وهذا الفرز تجسد على الواقع في شخصيات قيادية تصدت لمواجهة الأحداث، وإن لم يكن كلها بالضرورة من الأكفاء إلا أن سبق ثورتها وتضحياتها يعطيها الأسبقية في القيادة. إلا أن الشكاوي من تسلل انتهازيين ومغامرين تبرز من حين إلى أخرى، مع عدم إهمال جوانب المنافسة والكيد السياسي و"القيل والقال". مما يجعل من الأهمية بمكان التوضيح بأن هذه المرحلة انتقالية، بموازاة إيجاد آلية قانونية وإدارية لمتابعة وتقييم الأداء والمحاسبة، وتسحب الشكاوي من خانة التشكيك والتشهير والكيد إلى ساحة العطاء والمسئولية الوطنية والقانونية لأطراف الشكوى.
ظهر جليا الدور الضخم الذي لعبه الإعلام الفضائي والمال في خلق وتسويق شخصيات لتصبح مراكز قوى مؤثرة، وبعض تلك الشخصيات برز بصورة مفاجئة على ساحة العمل العام والسياسي لتصبح شخصيات عامة. ونظرا، لغياب أو عدم توفر معلومات كافية عن التاريخ السياسي أو المهني لبعض تلك الوجوه، في ظل التعتيم الإعلامي لنظام القذافي على الشخصيات الوطنية، والذي واكبه ارتباط المواطن اللصيق بالإعلام كمصدر للأخبار والمعلومات، أضحت الشهرة والانتشار مصدر مصدرا للقيمة.
الخلل مصدره ليس الإعلام، بل الخلط بين الإعلامي والسياسي، وبين الإعلامي والتكنوقراطي، والإعلامي والمناضل، وخصوصا عندما يتأثر صاحب القرار وحامل المسئولية في تحديد مواقفه من الشخصيات بحجم الظهور الإعلامي و ذربة اللسان، دون العودة لتاريخه ومحصلة قدراته. بل أن الأمر وصل بالبعض للقول "ارحل إلى قطر أو دبي ثم انتحل صفة مناضل أو محلل، فأنت بطل وطني".

وبالمثل، بالنسبة لرجال الأعمال، الذين قام اغلبهم بجهد وطني مشكور ومشهود في دعم جهد الثورة والإغاثة، إلا أن بعضهم القليل يحاول غسيل أمواله المنهوبة.
الخبر الجيد أن الأثر الإعلامي المصطنع بدأ في التناقص، وان الوقت وحرية الإعلام كفيلة بالباقي. خلاصة، هذه النقطة ضرورة الاحتياط من اثر المال الفاسد والإعلام المضلل والنصب السياسي.
• الائتلافات والتنظيمات
تجمعت وتشكلت القوى المدنية المساهمة والمناصرة للثورة في ائتلافات عدة، اغلبها تسمى بائتلاف 17 فبراير. وكان لائتلاف 17 فبراير في بنغازي كسب السبق في ذلك. وهذه الائتلافات المتعددة تتفق في أن هدفها، كقوى مجتمع مدني، هو حماية الثورة ومنع سرقتها وانحرافها، إلا أن بعض منها أو أجزاء منها تحولت لجماعات ضغط لها أجندتها السياسية الخاصة أو أنها تتبع رؤية أو مجموعة معينة. ولا ضير في ذلك، إلا أن الضير هو استغلالها لمصالح وقتية أو ضيقة أو لتحقيق أهداف أنية. ولان الثورة جاءت من اجل مجتمع مدني حر ومفتوح، فللائتلافات حق التواجد والعمل طالما احترمت شروط العمل السلمي، وابتعدت عن التهييج الشعبي. توسع وتنوع المجتمع المدني ينفي صفة احتكار الصوابية والحق عن تجمع بعينه دون غيره.



• معارضة الخارج
قادت المعارضة الوطنية المهجرية حملة معارضة النظام طيلة الأربعة عقود، حافظت خلالها على شعلة النضال متوهجة، رغم خطورة معارضة النظام القذافي، ورغم محاولات النظام الثابتة لتصفية المعارضة والمعارضين وإرهاب ذويهم. انقسمت المعارضة في السنوات الأخيرة إلى معارضة جذرية وجناح إصلاحي. وقد ساهما في حشد وإطلاق ودعم ودوام انتفاضة 17 فبراير. وألان بدأت معارضة الخارج في العودة للعمل من داخل الوطن وترتيب شئونها، أفراد ومجموعات، لينخرطوا في العمل الميداني والسياسي. شعرت أطراف من المعارضة بعض المرارة من إهمالها وتصدر أطراف محسوبة- في نظرها- على النظام المنهار لمهام قيادية داخل الثورة (وهو شعور موجود لدى معارضي وسجناء الرأي في الداخل وقطاع من الشعب).
هذا التوجه شرع في الخفوت- وخصوصا بعد مؤتمر روما- لوعي القيادات العليا للمرحلة الانتقالية بهذا الأمر، لكن الأمر يتطلب تطوير آلية للاستفادة ومنح المساحة لمعارضة الخارج، لتوفر كثير من كوادرها على تراكم خبرة في العمل والحشد السياسي.



• المنشقون
متابعة من الفقرة السابقة. معارضة النظام السياسية أغلقت بابها يوم 15 فبراير 2011، ليفتح باب الثورة على مصراعيه لكل أبناء الوطن للانضمام للثورة. بدأت المرحلة الأولى من عمليات انشقاق قيادات النظام منذ الأيام الأولى للثورة حتى قبيل إصدار القرار الاممي بالتدخل لحماية المدنيين، ثم توالت عمليات الانشقاق مستمرة ومتراوحة حسب تطور الأمور وظروف المنشقين. طبعا، التشكيك في ولاء ووطنية المنشقين، وخصوصا اوائلهم، بددته مشاركاتهم المهمة والحاجة إلى خبراتهم التكنوقراطية ومخرجات أدائهم في الفترة، إلا أن حادثة اغتيال اللواء عبد الفتاح يونس، أضاءت هذا الموضوع وأثره في الاستقرار المستقبلي.
طبعا، لا يمكن لأحد أن يمنح أو يسحب الوطنية بحساب النوايا، إلا انه من المستحسن أن يكون هناك معيار وتوازن، وان تتم الاستعانة بالقدرات والكفاءات النظيفة منهم كمستشارين لا كسياسيين وشخصيات عامة، لان التجربة العراقية بينت خطورة أسلوب "اجتثاث البعث".

• قيادات النظام
وهم قيادات وكوادر النظام وكتائبه، والذين لا يخفى على الجميع ارتباطهم بالنظام بدرجات خلال فترة ألاثني والأربعين سنة جندهم النظام لخدمته، مع تورط بعضهم في جرائم النظام إرهابا وفسادا. وهؤلاء قد يكونوا عامل عدم استقرار- كما هو الحال في العراق- لما يحوزنه من أموال ونفوذ. وهذا يدعو إلى تحديدهم في فئات حسب درجة جرائمهم وخطورتهم مع المعالجة ضمن العدالة الانتقالية والمصالحة الوطنية والاحتواء السياسي الذكي الذي يراعي معاناة الشعب ورأيه.



• المناطق أو الجهات الغير ثائرة
هناك مناطق وجهات تأخرت في التحاقها بالثورة لأسباب أهمها الترابطات القبلية والسطوة الأمنية والعسكرية الرهيبة لكتائب القذافي، الذي ارهبهم وبث فيهم الرعب والدعاية القاتمة من قبل: المنطقة الشرقية/ المنطقة الغربية، الصفوفية القبلية، مواجهة الناتو الصليبي، الترويع من الانتقام. هذه المناطق والجهات كلها مهمة إلا أن بعضها يحظى بأهمية لحجم السكان أو الموقع الجغرافي. التعامل مع هذه المناطق يتطلب الواعي والاحتواء الوطني مع تشجيعها على فرز قيادات وطنية حكيمة، وكذلك استيعابها في العملية السياسية.

القبلية
ليبيا مجتمع تقليدي محافظ، تلعب فيه القبلية والمناطقية دورا، ازداد بغياب منظمات المجتمع المدني والسياسي وباستغلال نظام القذافي لها طيلة فترة حكمه، مما جعل من القبيلة فاعل سياسي يسبق أحيانا العامل الوطني. ورغم أن النسيج الاجتماعي الوطني متناغم في عمومه، إلا أن الانزلاق للتناحرات القبلية خطر حاذق بكل ما تحتويه الكلمة من عمق المعنى. فالواجب هو إعادة الصفة الاجتماعية للقبيلة وسحب المحتوى السياسي منها، وهذا يستوجب محاربة أي محاولة لإقحام القبيلة في اللعبة السياسية، لاحتمال استغلال بعض المريبين السياسيين لها.



• الصراع الطبقي
أبانت ثورة 17 فبراير عن نوع ما من الانقسام والاصطفاف الطبقي، حيث لوحظ نجاح نظام القذافي في استقطاب ذوي الدخل المحدود وسكان المناطق الشعبية وأصحاب الوظائف البسيطة لخندقه. هذه الملاحظة قد لا ترقى إلى الظاهرة لوجود كل فئات الشعب في صف الثورة والثوار، ولكن الانتباه إليها مطلوب للحد من تطور الشرخ الطبقي.



• الإسلاميون والليبراليون
درج الكثير على تصنيف التيار السياسي الوطني للثورة إلى فسطاطين رئيسيين: الإسلاميون والليبراليون ضمن الشعب الليبي المسلم. التياران بهما المعتدل والمتطرف، إلا أن الهواجس من التطرف الإسلامي اكبر نظرا للأفكار الحدية والمتشددة عند بعض التنظيمات، وللتخوف من عدم القبول بالخيار الديمقراطي الشعبي. وهذه الهواجس تكبر إلى مخاوف بسبب التأطر التنظيمي وانتشار السلاح والحيازة على التمويل بين حاملي هذه الأفكار. طبعا، يوجد في التيار الإسلامي جناح واسع ومهم من الوسطيين والديمقراطيين، على رأسهم "جماعة الإخوان المسلمين" بما لها من رصيد وحجم وتأثير، يجعلها فاعلا مهما في العمل السياسي، وفي التخفيف من الاستقطاب المجتمعي. دور الإخوان المسلمين بارز ومهم، ولطمأنة الأطراف الأخرى في الساحة السياسية فالمنتظر من الإخوان المسلمين تقديم النموذج المطمئن للأخريين. وفي التجربة التركية مدرسة مهمة، وفي حنكة "اردوغان" و "غول" الكثير للاستفادة منه لدى نظائرهم في ليبيا.
أما الليبراليون أو الديمقراطيون فتتوزعهم أفكار شتى ومدارس عدة وينقصهم الانتظام والتمويل، ويسودهم العمل الفردي والنخبوي وعدم وضوح الرؤية الجماعية، وهم بذلك قوة مؤثرة ثقافيا وإعلاميا أكثر منها سياسيا. وهذا الفراغ والضعف القاعدي قد تملأه القوى المحافظة الاجتماعية والقبلية. مع أهمية عدم إهمال أصوات متطرفة في علمانيتها، بروزها ليس بسبب حجمها بل بضجيجها العالي. إلا أن إمكانية تكتل الديمقراطيين والليبراليون واردة بتوفر عناصر ودواعي تكتلهم الأساسية.
كما أن من بالأهمية بمكان تحديد مهمة ودور أماكن العبادة والمساجد في العمل والدعاية السياسية.



• الدعم والتمويل والتسليح:
بسبب ظروف حرب التحرير والحاجة إلى الإمداد والمؤن والإغاثة، فتح باب التبرع والدعم على مصراعيه أمام الإفراد والمؤسسات والدول، وطنيون وأجانب. وألان في هذه الفترة الانتقالية وجب تنظيم هذا القطاع بما لا يعيق تدفق الدعم والتمويل المطلوب، وبما لا يقيد الحريات والحقوق، ولكن بما يضمن تحقيق المصلحة العليا في الاستقرار والسلم الاجتماعي واستقلال القرار السياسي.

ويعتبر باب التسليح وتمويل الكتائب والسرايا من الخارج أمر حساس يحتاج إلى اهتمام عن كثب. وهذا يتطلب إقحام المؤسسة العسكرية والنظام المصرفي في عمليات التمويل لمعرفة المصدر والمأل، مع تقوية حرس الحدود والمنافذ.



• مراكز الاحتكاك
نتج عن حالة الثورة المسلحة، وبالأخص في مناطق اجدابيا ومصراتة وجبل نفوسه والزاوية وزوارة، احتكاكات ومواجهات مسلحة بين ثوار المناطق الثائرة وموالي كتائب القذافي في المناطق المجاورة لهم، وبل تم تحرير بعض المناطق بقوة ثوار المناطق الأخرى أو بمشاركة منهم. هذه الاحتكاكات أفرزت مرارات في نفوس البعض وايقضت حزازات قبلية مما يتوجب الالتفات إليها، حتى لا تتضخم وتستغل سلبيا من فلول نظام القذافي. كما انه يجب عدم إغفال بعض أثار الاحتكاكات التاريخية وخصوصا في المنطقة الغربية من الوطن.



• الامازيغية
الامازيغية احد مكونات الهوية الوطنية الرئيسية (الإسلام والعربية والأمازيغية) والمتحدثون بالأمازيغية جزء أصيل وفعال في الشأن الليبي، ماضيا وحاضر ومستقبلا مع باقي إخوانهم وشركائهم في الوطن الواحد . ولقد عاني المكون الامازيغي والمتحدثون بالأمازيغية أقصى ضروب الاضطهاد المنهج بغية تذويبهم وسلبهم خصوصياتهم الثقافية واللغوية. فكان المتحدثون بالأمازيغية معارضين أشداء لنظام القذافي، منخرطين في الجهد الوطني النضالي لإسقاط نظام القذافي إثناء مرحلتي المعارضة والثورة من اجل ليبيا تسع وتضم الجميع وتحترم الحقوق الفردية والجماعية وتكفل حق التعدد والتنوع في الوطن الواحد.
وألان، مع اقتراب الحق الامازيغي الليبي من تلبية استحقاقاته، وجب رعاية هذا الحق ودرء انزلاقه في أتون التجاذبات الإيديولوجية والاستقطابات الحدية. وهذا يتطلب الانطلاق من الفصل بين الشأن الحقوقي والأمر السياسي، مع بيان أن الوحدة الوطنية المزدهرة تستوعب التنوع. (هناك مساهمة مهمة وأساسية في الموضوع جديرة بالاطلاع وهي: "ورقة الشأن الامازيغي في ليبيا" والتوصيات المقررة من لجنة الإعداد للمؤتمر الوطني للمعارضة الليبية، والمعتمدة من المؤتمر الوطني للمعارضة الليبية، لندن الموافق 25 و 26 يوليو 2005، والذي شارك فيه التجمع الجمهوري من اجل الديمقراطية والعدالة الاجتماعية، التجمع الإسلامي الليبي، التجمع الوطني الديمقراطي الليبي، التحالف الوطني الليبي، الجبهة الوطنية لإنقاذ ليبيا، الحركة الليبية للتغيير والإصلاح، الحركة الوطنية الليبية، والمؤتمر الليبي للأمازيغية، ومجموعة مهمة من المستقلين.)
فالمسألة الامازيغية الليبية لن تنتظر التأجيل مما يستدعى معالجتها وطنيا ضمن توافق وطني وإقرار دستوري وقانوني ومعالجة حقوقية وسياسية.



• غياب المنظومة الفكرية
ثورة 17 فبراير كانت ضد الطغيان والفساد والحرمان والتهميش، ومن اجل الحرية والكرامة والمساواة والعدالة الاجتماعية والرفاه. وهي شعارات جميلة ولكنها عامة. وهذا يتطلب صياغات أكثر تفصيلا لمتطلبات وأهداف وغايات الثورة للوصول إلى وفاق عام حولها. لان غياب الصياغات والبرامج التفصيلية العامة للثورة تجعل من الاختلاف حول تفسيرها قد يتحول إلى خلافات بدون مرجعية لحلها. وهنا، يكون دور المثقفين والفاعلين الاجتماعيين والسياسيين مهم عبر الكتابة والحوار والارتفاع بمستويات الحوار نوعيا.



• الشفافية
في باب الشفافية السياسية، تتصاعد بين فترة وأخرى أصوات بغياب الشفافية في العمل السياسي وتأثره بالعلاقات الأسرية والقبلية والتدخلات الحزبية. أما جانب الشفافية المالية، فهناك أحاديث عن غياب الدقة في الإجراءات المالية، وان إدارة "الشنطة" تنتشر كظاهرة، إلى جانب عدم ترشيد الصرف في الفنادق والسفر.
قد تكون تلك الأصوات مبالغة، ولكن انعدام الشفافية يعطيها القوة، مما يستوجب التأكيد على مبدأ الشفافية بحزم، مع إحالة أي خروقات للإجراءات القضائي، ليكون بلاغ وعبرة.



• العدالة الانتقالية والمصالحة الوطنية
من تعريف ومفهوم العدالة الانتقالية هي المعالجة القانونية والسياسية والاجتماعية ضد الانتهاكات المنهجة والجسيمة والجماعية لحقوق الإنسان، بما يعوض ماديا ومعنويا الضحايا، ويساهم في إرساء السلام الأهلي والسلم الاجتماعي والمصالحة الوطنية والوئام المجتمعي وتحقيق الديمقراطية. والعدالة الانتقالية، كمفهوم دولي حديث نسبيا، جاء نتيجة تجارب وخبرات لويلات الحروب ومعاناة الإرهاب الجماعي في مجتمعات تعيش حالة التحول نحو الاستقرار والبناء. فالعدالة الانتقالية هي موازنة حكيمة بين مقتضيات العدل والمستلزمات السياسية.
فالعدالة الانتقالية جزء من المصالحة الوطنية، التي يجب أن تقوم على أسس من حب الوطن والتسامح والتعايش والتفكير في المستقبل والأجيال. وهذا لا يعني التجاوز والغفران عن جرائم القتل والإرهاب والفساد بل تضمينها في مجمل عملية المصالحة والبناء.

أهمية توضيح مفهوم ومصطلح العدالة الانتقالية كمفهوم كلي، مهم لضمان حسن الفهم والتفاعل، فالعدالة الانتقالية تتضمن المتابعة الجنائية للجناة من تحقيق ومحاكمة وعقاب، ولجان الحقيقة، وحقوق التعويض المادي والمعنوي، وضبط الأجهزة الأمنية وتحديد صلاحيتها وأساليبها، مع تخليد ذكرى الانتهاكات لمنع تكررها ولتكون عبرة.
جهد العدالة الانتقالية والمصالحة الوطنية يجب أن يحظى بالعناية الخاصة والعاجلة، لضمان استتاب الأمن ولتطمئن القلوب المجروحة أو الخائفة ولردع الجناة، لمنع ظواهر الانتقام والثأر واخذ القانون باليد والابتزاز والكيد. وفي تجارب الدول و"لجان الحقيقة والمصالحة" خبرات مفيدة".



• سيناريو قبرص
قبيل الانتفاضة وفي بداياتها ظهرت على السطح أحاديث ومخاوف من انقسام الوطن، إلا إنها تراجعت في ارتداد كبير لمعطيات عمق الشعور بالوحدة واللحمة الوطنية والتعاضد المجتمعي بين مناطق ليبيا إثناء الانتفاضة. إلا هناك حالة قبرص الدولة الواحدة في القانون الدولي، ولكنها مقسمة إلى جزئيين(مع التنبه إلى الفرق بين الحالة الليبية القبرصية، ولكن كمثال)، وكذلك حال دول فاشلة كثيرة في العالم الثالث. في الحالة الليبية، وفي أسوء الاحتمالات المتوقعة قد تعيش ليبيا- لا قدر الله- فترة عدم استقرار وخصوصا في المنطقة الغربية، مما يقسم ليبيا واقعيا إلى جزء شرقي مستقر وأخر غربي غير مستقر، بسبب نتائج حرب التحرير وتعقد أثارها وتداخل المكونات الاجتماعية والسياسية. هذه الاحتمال بعيد الورود حسب معطيات الحال ألان، ولكنه يبقى احتمال ولو بعيد، يجب الاستعداد للتصدي له مبكرا قبل أن يتطور سلبيا، في ظل استقطابات داخلية وخارجية ضعيفة لحد ألان.



• مصر
مصر جار مهمة لها مشاكلها الاجتماعية والاقتصادية الشديدة (فقر، انفجار سكاني، طبقة فاسدة متنفذة، إمكانيات اقتصادية وتنموية محدودة، عدم استقرار سياسي، مشكلة طائفية..) في ظل حصار واقعي، منظور وغير منظور (شرقا بالأراضي المحتلة وعازل البحر الأحمر المنيع، وجنوبا بصحراء طاردة، وشمالا بالمتوسط سد أوروبا الحصين). ولهذا لم يبقى أمام مصر والمصريين إلا باب الهجرة الجماعية الكبيرة وتصدير الاختناقات نحو الغرب، أي ليبيا. على مستوى التفكير الاستراتيجي الدولي والإقليمي قد يكون هذا هو الحل الأسهل لمنع الانفجار المصري، ولكن ذلك سيكون على حساب ليبيا، وبالأخص شرقها، الأقل سكانا والأكثر ثراء بالبترول.
السيناريو القبرصي والهاجس المصري مرتبطان، والحل الأنسب سياسيا واقتصاديا وثقافيا هو تعميق الارتباط المغاربي (تفعيل اتحاد المغرب الكبير)، الذي بإشكاليته لا يوجد لديه نهم توسعي.



• الجزائر
الموقف الجزائري الرسمي من الثورة الليبية غير مريح وغير مرضي عنه من قبل الثوار، ولكن ما أسباب الموقف الجزائري وما أثاره؟

في عالم السياسة، كما في الحياة اليومية، يمكن اختيار الحلفاء والأصدقاء ولكن ليس الجيران. الجزائر جار إقليمي مهم ومؤثر، وموقفها الرسمي، جاء بناء على حسابات داخلية ومصالح خارجية. وباستبعاد حسابات الجزائر الداخلية، فمصالح الجزائر نظريا يجب أن تكون مع الطرف الأقوى والدائم في ليبيا، وهم الثوار وممثلهم المجلس الوطني الانتقالي.
ربما تتخوف الجزائر من اثر فرنسا وقطر في الثورة الليبية- وهذا يفسر موقف الطوارق المتحفظ. وربما الخوف من الدور المصري القادم. إلا انه من المهم التواصل مع الجزائر ومصالحتها وتطمئنها وعدم إثارتها واستفزاز كرامتها الدبلوماسية والسياسية عبر توطيد العلاقات والزيارات وتعزيز التعاون من اعلى المستويات. وإلا فتجربة البوليساريو الطويلة قد تنتقل إلى بيتنا!



• قطر
لم تدعم دولة الثورة الليبية كما دعمتها قطر، ولم يمتن الشعب الليبي لشعب وقيادة كامتنانه لشعب قطر ودولته، ولكن قطر لا تقع في ليبيا.

الدعم والمساندة القطرية كانت فاعلة سياسيا وماليا وإعلاميا وتسليحا، إلا أن أصوات تتسأل وتشتكي وتحذر من تحيز الدور القطري وانه لم يكن متزن، بتحبيذها وتفضيلها لأطراف وجهات ليبية دون أخرى. وان قطر قد تدعم إسقاط القذافي ولكن ليس بالضرورة عملية التغيير الديمقراطي. الدور القطري كان وسيظل مهم، وجزء من الأهمية التقدير والعرفان. والسياسة الخارجية الليبية بحاجة إلى الانفتاح التوسع الأفقي ضمن سيادة ليبيا ومصالحها.



• إفريقيا
ليبيا دولة افريقية بجدارة، ولا يمكن إلا أن تكون افريقية كما هي متوسطية، إلا أن استغلال القذافي لإفريقيا وتوريط مرتزقة و دول افريقية في الحرب إلى جانبه له أثار سلبية في عقول وعواطف الشعب الليبي، مما يدعو للعمل دون اتساع جفوة التباعد بين ليبيا وعمقها الإفريقي المهم، وخاصة الدول الجوار والدول التي بها استثمارات ليبية والدول المؤثرة في إفريقيا كجنوب إفريقيا ونيجيريا وإثيوبيا والسنغال وغانا...



• الإعداد للمرحلة الدولة
المرحلة الانتقالية الفاصلة بين مرحلة الثورة المؤقتة إلى مرحلة دولة الدستور الديمقراطي والمؤسسات والقانون، ستشهد حوارات ساخنة ومجادلات جادة ومشاحنات مغرضة وعروض مغرضة حول محتويات الدستور، وشكل الدولة ونظام الحكم (ملكي، جمهوري، رئاسي،برلماني، أو مختلط)، ومدي مركزية الدولة أو درجة لامركزيتها، أو فيدراليتها وارتباط الولايات والبلديات بالمركز، والنظام والأسلوب وطريقة الاقتراع (فردي أو القائمة، النسبي أو المختلط)، والتقسيمات السياسية والدوائر الانتخابية، وتشكيل الأحزاب وشروطها... تناول هذه المواضيع مهم ولكن له تداعيات في حل بقاء العسكرة وعدم رسوخ المجتمع المدني وضبابية أخلاقيات الحوار ومهنية الإعلام.



• الإعلام
حرية الإعلام تحتوي المسئولية، وذلك يشمل الابتعاد عن التشهير أو الحث على الكراهية والعنف، ومن ذلك وجب تحديد خطوط المسئولية قانونيا، وتقييد النشر بأسماء مستعارة في الأمور التي لا تتعلق بتناول الأشخاص وحياتهم.
ما سبق هو عبارة عن تجميع وترتيب لأفكار وأراء بهدف لفت النظر إليها، وهي ليست نهائية بل متغيرة وقبالة للنقد والتطوير حسب الظروف والإضافة النقدية.



إبراهيم قراده

28 أغسطس  2011
نقلا عن موقع المؤتمر الوطنى للمعارضة الليبية

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق