الجمعة، سبتمبر 07، 2012

لا للعزل السياسي . نعم للعزل الأخلاقي المبرر.... د. محمود سليمان موسى

كان يجب بعد قيام ثورة فبراير وتشكيل السلطة الانتقالية الأولى، أن يتم التعامل مع الواقع الذي أحدثته الثورة في ضوء المعطيات الجديدة، وفي كافة المجالات. ولكن الذي حدث أن السلطة الانتقالية لم تعر هذه المعطيات في كثير من الجوانب أية أهمية، وكأن وقوع ثورة فبراير كان بدون مسببات أو مبررات!! أو ربما اعتقدت السلطة الانتقالية الأولى أن الهدف من ثورة فبراير ليس شيء سوى التخلص من شخص معمر القذافي وأبنائه!!
أما عملائه وداعريه ومنظومته العبثية والقمعية، فلا تثريب عليهم!!! وهكذا كان هذا هو أسلوب السلطة الانتقالية الأولى!! وهو أسلوب يتناقض مع مبادئ و أهداف ثورة فبراير التي تقتضي وتوجب على سبيل الحتم إحداث تغيير جذري في كل مناحي الحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية والإدارية، وفي منظومة العلاقات والقيم والسلوكيات، وهذا هو ما برر قيام الثورة،وهو أيضا ما فسر لنا هذه التضحيات الجسيمة التي قدمها الشعب الليبي من أجل هذه الثورة التي تعني بالنسبة له شيء واحد هو التغيير من الحال الأسوأ إلى الحال الأفضل وليس العكس. أي من دولة عصابة إلى دولة القانون والمؤسسات.


ولهذا السبب، فإن كثيرا من الأوضاع والعادات والأعراف والعلاقات والأنماط القذافية استمرت بعد الثورة، بل وإلى الآن!!! رغم كثرة التنبيهات والتحذيرات، بل ورغم الضرورات التي تفرض وجوب التخلص من تلك المساوئ والنماذج السرطانية الخبيثة وبصورة نهائية.
ولكن يجب التنبيه هنا إلى نقطة جوهرية، هي أن هذا التخلص أو العزل ليس بسبب الاختلاف السياسي أو المذهبي كما يحاول البعض تفسيره، بل لأسباب أخلاقية ومعنوية وموضوعية بحتة ذلك، وهي أسباب لا علاقة لها بالفكر أو بالرأي أو الموقف السياسي.
لهذا السبب يجب التفريق من جهة، بين العزل السياسي الذي يعني إبعاد شخص ما عن عمل أو وظيفة أو منصب لأسباب تتعلق بعقيدته أو ميوله أو اتجاهاته السياسية أو المذهبية أو الدينية، وآيا كانت هذه الاتجاهات.
وبين العزل الأخلاقي المبرر الذي يعني عزل من لا يصلح لأداء وظيفة معينة، وإبعاده عن ممارسة هذه الوظيفة التي تطلب شروطا مهنية وعلمية وفنية لا تتوافر فيه.
وهذا النوع من العزل لا يختلف كثيرا عن العزل الصحي أو العزل الوقائي، فالشخص الذي تبرر الضرورة والأخلاق عزله، يجب أن يعزل، وهذا النوع من العزل لا علاقة له بالعزل أو الإقصاء السياسي أو الفكري.
والحالة الليبية كما نعرفها لا يسري عليها مفهوم العزل السياسي ولا ينطبق عليها بأي صورة من الصور، ذلك لأن ليبيا قبل ثورة فبراير لم يكن بها نظام دولة بالمعنى المتعارف عليه، كما لم يكن بها حزب أو اتجاه سياسي أو فكري محدد المعالم والأهداف، بل كان الواقع يكشف أن الحالة الليبية هي أقرب إلى نظام العصابة في أسوأ وأحط صورها، أنه كان يشكل نظام عصابة غوغائية عشوائية إجرامية ليس لها أهداف سياسية معلومة أو مبادئ وطنية أو فكرية معلنة يجري العمل على هداها، وإنما كان كل شيء يرتكز على شخص "واحد ووحيد" ، وعلى تقديس ما يقوله ويردده، وكان على الجميع أن يقتنع بعظمة وعبقرية هذا "الوحيد"، ومن يكفر به، فإن مصيره العذاب الأليم!! فلا شيء إلا شخص وحيد، وما عداه ليس سوى تبع وعبيد.
هذا هو ما كان يجري في ليبيا كقانون أعلى، وكان الولاء للصقر الوحيد هو المعيار الوحيد لتولي المناصب والوظائف ولو كانت ذات طبيعة فنية!! وربما اختلفت نوعية هذه الوظائف والمناصب تبعا للاختلاف في نوعية الولاء المعبر عنه تجاه الصقر الوحيد!!
فالذي كان يقوم بالقتل والتنكيل مثلا، ليس كالذي كان يقوم بالتطبيل والتدجيل، وليس كمن كان يقوم بكتابة التقارير. فمعيار الولاء هنا كانت له صور عديدة وأشكال متنوعة، ولكل صورة منها مقابلها الذي يحصل عليه الشخص بصرف النظر عن أهليته لهذا المقابل، فقد يمنح وظيفة سفير أي أمين مكتب شعبي، وقد يمنح وظيفة وزير، أي أمين لجنة شعبية عامة وهكذا.
والشيء المعروف لدى الكافة أن القذافي لم يكن يبخل على عملائه وطباليه بأي شيء حتى لو ترتب على ذلك تحطيم كل قواعد المصلحة العامة. ولهذا لم يكن مستغربا مثلا أن يعين اقلذافي شخصا ما في وظيفة وزير العدل، لا لشيء سوى أنه أجاد القيام بمهمة التصفيات الجسدية لمعارضيه، وزير العدل قاتل ومجرم، هذه هي أهم مواصفاته زمن القذافي، بل ويعطى أو يمنح درجة قضائية!! بل أن القذافي أعطى وظيفة أو منصب أمين مؤتمر الشعب العام، وهي تقابل وظيفة رئيس الدولة لشخص، لمجرد أنه أثبت ولائه للقذافي عن طريق ارتكابه جريمة القتل، وقد اعبره القذافي بسبب هذه الجريمة البشعة، ثوريا مخلصا ومقداما، لأنه وبحسب تعبيره أقام "المشانق" ليل نهار ضد أعداء "الفاتح"!!
وعندما نطق القذافي بهذه الكلمات تعالت وارتفعت "الحناجر" حناجر أعضاء ما كان يسمى بمؤتمر الشعب العام حتى بحت وهي تصيح..علم ياقائد علمنا..صفيهم بالدم ونحن معاك!!!!
وهكذا كانت الأمور تجري في ليبيا، وهذا هو السبب الرئيسي والفعال الذي أدى إلى أن تصبح ليبيا هي الدولة الأولى في هذا العالم، نموذجا في الفشل والعبث والتخلف حتى على الصعيد الأفريقي!!!
والعجيب المثير أن كثيرا من عملاء القذافي ومنتفعيه وداعريه مازالوا إما في وظائفهم التي تكرم القذافي عليهم بها لقاء ما كانوا يفعلون من خسة وقبح وسفالة، وأما نجدهم في وظائف أعلى!!!
وترتيبا على ما سبق، فإن الذي تقلد وظيفة سفير مثلا استنادا إلى ما قدمه للقذافي من ولاء وعبادة،، لا يجوز بقائه أو استمراره في وظيفته تلك بعد الثورة، لسبب بسيط وبديهي هو أن علة وجوده في ذلك المنصب تلاشت وزالت، وهكذا في بقية الوظائف والمهام والمناصب.
ومما هو مثير للاشمئزاز في هذا الجانب، أن كثيرا من الوزارات والمؤسسات مازالت تسير وفق منهج القذافي العبثي، فوزير التعليم العالي مثلا مازال يعمل إلى الآن طبقا لعقلية وعادات وأساليب النظام المنهار، لهذا ترى الأشخاص الذين يهيمنون فعليا وعمليا على إدارة الجامعات والكليات، هم في أغلبهم من عملاء القذافي وداعريه، وكان مبرر وجودهم في الجامعات ومنذ البدء، هو مبرر الولاء للقذافي والخضوع له لا غير، وليس بناء على أية مقومات أكاديمية تسمح او تبرر وجودهم في الجامعة كأعضاء في هيئة التدريس الجامعي!!
ولكن تطبيقا لما كانوا يرددون "من ليبيا يأت الجديد"، وما كان هذا الجديد سوى العبث والسخف والإسفاف.
والعجيب المدهش أنك لو أردت الاطلاع على قانون الجامعة، فستجد أن قانون القذافي مازال هو المتبع.. وأنه من شروط العمل بالجامعات أن يكون الشخص مؤمنا بفكر وعبقرية الصقر الوحيد!!!
وربما كانت هذه الحالة المقززة سببا في قيام أحد الأكاديميين برفض هذا الواقع الشاذ عندما كتب مذكرة لما كان يسمى أمين اللجنة الشعبية العامة وأمين اللجنة الشعبية للتعليم العالي وأمين اللجنة الشعبية بجامعة قاريونس سنة 2004 ذكر لهم فيها أن ما يجري في جامعات ليبيا من سخف وعبث هو وضع لا يقبل به حتى جحا في زمانه، بل ولا ترضى به الحكومة الإسرائيلية أن يحدث في جامعات الأراضي المحتلة في فلسطين!! لكنه يحدث في جماهيرية القذافي العظمى!!
ولهذا، فإن القاعدة المعمول بها زمن القذافي كانت تقضي بأن المناصب والوظائف والمهام وكل شيء في الدولة هو حكر على الدجالين والسفلة والعملاء دون غيرهم بصرف النظر عن قدراتهم العلمية أو الفنية أو المهنية أو الذهنية، وأغلب هؤلاء كان يجري اختيارهم عن طريق مكتب الإتصال باللجان الثورية، وليس بناء على مسابقة أو إعلان أو شروط موضوعية.
فهل في عزل هؤلاء الأشخاص، ما يعتبر عزلا سياسيا؟
أم هو عزل أخلاقي تقتضيه الضرورة والمنطق؟
إن الضرورة والمنطق والمصلحة العامة توجب بأن كل من أوجدته الحالة العبثية القذافية في وظيفة ما أو في منصب ما، يجب عزله منها، لانتفاء مبرر وجوده واستمراره في هذا المنصب أو في تلك الوظيفة، لأن شغل هذه الوظيفة قد تم بناء على إتباع طرق قذرة ومنحطة وليس بناء على معايير موضوعية.
ولهذا يجب عدم الخلط بين العزل الأخلاقي أو الجنائي أو الوجوبي الذي تقتضيه طبيعة الوظيفة، وبين العزل السياسي الذي يعني إقصاء شخص ما لأسباب فكرية أو عقائدية، وهو العزل الذي كان مطبقا في ليبيا زمن القذافي بصورة سافرة وعلى نحو لا مثيل له حتى في الدول المحتلة.
وعلى ذلك، فإن كل من كان مرتبطا بنظام القذافي باعتباره عضوا في منظومة التنكيل أو التطبيل يجب أن يعزل ويقصى، وسند هذا العزل ليس سياسيا أو فكريا، وإنما هو عزل أخلاقي تقتضيه وتفرضه المتغيرات المعنوية والوطنية التي أحدثتها ثورة فبراير، ذلك لأنه من السخف أن يبقى ذلك الذي شارك في التنكيل بالليبيين بأي صورة من الصور، سواء في الإعدامات أو خطف الوطنيين الشرفاء أو كتابة التقارير الأمنية المدمرة أو في التطبيل للقذافي، في نفس الوظيفة أو المكان الذي منحه له القذافي وتكرم به عليه، كعطية له أو إكرامية على ما ارتكبه بحق الليبيين.
إن تقاعس وتقصير السلطات الليبية في هذا الجانب لا يعتبر خطأ بل هو خطيئة لا تغتفر، بل هو خيانة لدماء الشهداء وإهانة لتضحيات الأحرار على مدى أكثر من أربعة عقود، وخروج سافرعلى مبادئ ثورة فبراير المجيدة.
كما وإن هذه السلطات بسبب موقفها الضعيف والمرتبك تجاه قضايا القتل والخطف والإذلال والاضطهاد التي تعرض لها المواطنون الليبيون، طيلة الحقبة المظلمة، قد ساهمت بدرجة كبيرة في حالة الغموض والبلبلة والاحتقان التي تسود الشارع الليبي، فلا يدري المواطن الليبي ولا يعلم شيئا عما تم اتخاذه بشأن قضية خطف السيد منصور الكيخيا أو قضية الدكتور عمر النامي، أو قضية سجن أبوسليم أو غيرها من مئات القضايا مثلا؟؟ ومن هم الأشخاص الذين قاموا بهذه الجرائم البشعة؟ وأين هم الآن؟
والكارثة المؤكدة أن يكون من بين هؤلاء من يعمل في وظائف الدولة الرئيسية!! ولعل قرارات هيئة النزاهة الأخيرة بشأن عدم انطباق معايير النزاهة والوطنية في عدد من أعضاء المؤتمر الوطني العام، تكشف أن الأمر جد خطير ويتطلب مواجهة فورية عاجلة، وأنه إذا كان من المتصور والمقبول أن يبقى أحد عملاء القذافي في وظيفته التي تحصل عليها عن طريق الإعمال القبيحة والمنحطة التي ارتكبها بحق الليبيين، فليس من الممكن لأحد أن يقبل بوجود شخص واحد في عضوية المؤتمر الوطني العام متى كان هذا الشخص ممن ثبت ارتباطه بمنظومة الدجل أو القمع القذافي وعلى أي نحو.
أنه لأمر يثير السخرية والاشمئزاز في نفس الوقت أن نرى عضوا في المؤتمر الوطني العام سبق وأن كان عضوا في مؤتمر القذافي العام، أو في إحدى لجانه الثورية أو الشعبية أو كان منظرا أو مدرسا أو موجها في عملية ما كان يسمى بالفكر أو المدرج الأخضر أو النظام الجماهيري او سلطة الشعب وعلى أي مستوى كان.
هؤلاء التافهون الساقطون يجب عزلهم، لأنهم أثبتوا بالدليل والتجربة أنهم أحط من البغايا، فلا إحساس لهم ولا ضمير لديهم، إذ لو كان لديهم إحساس أو ضمير، لابتعدوا من تلقاء أنفسهم بعد أن سقط معبودهم وصانع مجدهم!!! وبعد أن تلاشى النظام الذي كانوا له يسجدون وبحمده يسبحون!!
وأنه إذا كانت الظروف الشاذة التي تعرضت لها ليبيا زمن القذافي قد مكنت هؤلاء التافهين من خلق علاقات واسعة بفعل السلطات والامتيازات الممنوحة لهم، ومن ثم تمكنوا من التأثير في الوسط الاجتماعي والضغط عليه، فإنه يجب إزالة هذه التأثيرات والضغوط، وذلك باللجوء إلى عزل كل من كان مرتبطا ليس بمنظومة الدجل والقمع بصورة مباشرة، بل أولئك المرتبطين بهذه المنظومة بطريقة غير مباشرة، أي أولئك الذين كانوا "تبعا" لعملاء القذافي، لأن وجود هؤلاء في مناصبهم لم يكن مستندا إلى قاعدة صحيحة أو نظيفة ولهذا فإنهم يشعرون بالخضوع والخنوع لأولياء النعمة والفضل عليهم، ولهذا السبب أيضا فإن هؤلاء يشكلون سندا لأزلام القذافي، ومن ثم خطرا على ثورة فبراير، والأمثلة والحالات الدالة على ذلك كثيرة ولا حصر لها.
ولكن وفي جميع الأحوال ينبغي التركيز على أن العزل الذي ندعو إلى تطبيقه ليس سياسيا ولا فكريا ولا مذهبيا، ولا يجوز أن يكون كذلك، وإنما العزل المقصود هو العزل الأخلاقي المبرر الذي تقتضيه مبادئ الثورة واعتبارات الصالح العام.
وهذا العزل هو أيضا ليس آخر الخطوات التي يجب السير نحوها، وإنما هو خطوة أولى في سبيل التقدم نحو خطوات أخرى، كالمحاكمة والمكاشفة وإظهار الحقيقة وإعادة الأموال والحقوق المنهوبة التي تم الاستيلاء عليها في إطار من شرعية كاذبة بررت وقوعها على نحو مفضوح ومقزز.
فالذي نهب الأموال بحجة أنه قتل أو شرد أو نكل بالليبيين، أو أنه دفع الثمن الخ، أو أنه عمل لصالح الإجهزة القمعية أو العهرية، وعلى أي نحو كان هذا العمل، يجب أن تسترد منه تلك الأموال، لأنها صرفت في وجوه غير مشروعة، وعلى ذلك فإنه يجب النظر إلى أن كل الأموال التي أنفقت في هذا السبيل هي أموال منهوبة صرفت بغير حق، ومن ثم يجب إعادتها لخزينة الشعب، ولا يجوز لأحد أن يتعلل أن تلك الأموال صرفت له كمقابل لوظيفة أو مهنة أو خدمة آداها لصالح النظام الذي أسقطته ثورة فبراير، ذلك لأن موضوع تلك الخدمة أو الوظيفة كان إجراميا.
وإذا كان لهذا الشخص من حق، فعليه أن يرجع إلى سيده الذي قدم له ولمصلحته ولحسابه، أعماله وأفعاله، لا أن يرجع على الشعب الليبي الذي كان هو الضحية وهو المتضرر من تلك الأفعال والأعمال، ومن أمثلة ذلك، الأموال التي أنفقت وصرفت على ما كان يسمى المركز العالمي لأبحاث الكتاب الأخضر وعلى من كان يروج وينظر لفكر القذافي، ومن باب أولى الأموال التي أنفقت وصرفت على التصفيات الجسدية للشرفاء الليبيين في داخل ليبيا وخارجها، وهذا الإجراء يلي الإجراء الأول مباشرة ويستند إليه وهو العزل الأخلاقي المبرر.
ويتطلب الأمر من السلطات المعنية، البدء بالإجراءات الضرورية في هذه المسائل وعلى نحو شفاف وعلني وحتى يعلم الليبيون أن أولئك الذين أجرموا في حقه وتعاملوا مع نظام القذافي كعبيد وداعرين وسفاكي دماء ولصوص وقطاع طرق، قد امتدت إليهم يد العدالة.
وإن عدم السير في هذا الاتجاه يعتبر خطيئة كبرى لا تغتفر، ويعتبر في نفس الوقت، قبولا بعودة المأساة القذافية إلى ليبيا مرة أخرى مستقبلا.
 
د. محمود سليمان موسى
(علي أبوشنة الغرياني سابقا)

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق